فى مصر، على أحد أرصفة القاهرة المزدحمة، كنت أمُرّ مسرعةً. كما تعلم وربما تختبر يومياً، يجعلك التلوث الجوى والبصرى والسمعى وأحياناً الأخلاقى إما مشوشاً أو حاضراً مُغَيباً فلا تكاد تسمع ضوضاء السيارات المختلطة بأصوات المارة والباعة، ولا تشم رائحة العادم والمياه السائلة خارج المحال بعد غسيلها، ولا تشعر بارتباك الحركة العشوائية، ولا ترى تفاصيل الصورة الباهتة من حولك. على بعد أمتار بدا بوضوح زَهاء اللونين الأصفر والأخضر.
سيدة مفترشة الرصيف تبيع القليل من الليمون والجرجير. كنت قد اقتربت منها عندما سمعتها تنادى بحِدة على ولد صغير: «تعالى.. خُد هنا. خُد!» مدت يدها بحزمة جرجير، أخذها الطفل ومضى دون أن يتفوه بكلمة. عندما أوصلتنى خطواتى أمامها دون نية فى التوقف، انجذب نظرى لنضارة ونظافة ما تبيع على عكس ما هو مألوف على الأرصفة. سألتها ببعض التعجب: «ده مغسول؟!» ردت وهى تمد يدها بحزمة لأشترى: «بمياه نظيفة.. المياه بَرَكة!» اشتريت مُجامَلةً وسألت: ده ابنك؟.. لأ، واد غلبان.. أهه برضه بركة!
بعد أيام فى زيارة لمستشفى سرطان الأطفال سمعت صراخاً يُبكى أقسى قلب.. رضيعة على فراشها لا تحتمل ورماً كبيراً فى رأسها. ورأيت ابتسامة تُدمع أجفى عين.. طفل حليق الرأس يعلم مرضه ويبتسم لحياته. تسارعت خواطرى، كما أن حياة هؤلاء الأطفال ومئات غيرهم فى يد الرحمن فإن ابتسامتهم وتخفيف آلامهم رهينة التبرعات. سألت، فقال الأطباء: والله مصر بخير جداً وحَكوا بفخر عن كل من ساهم ويساهم فى إبقاء هذا المستشفى القائم على المعونات والتبرعات. مؤسسات وشركات ورجال أعمال يتبرعون بالملايين وأفراد يأتون بما يستطيعون بالآلاف والمئات من الجنيهات. حتى أن بائعة جرجير جاءت إلى باب المستشفى وتبرعت بخمسة جنيهات! تذكرت على الفور البائعة التى لم أعرف اسمها، قد تكون هى.. الست «بَرَكة»!و إن لم تكن هى نفسها فهى بالتأكيد بائعة جرجير أخرى تحب البركة.. فى مكانٍ ما فى مصر.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة