إذا قالَ لك أحدُهم رأيًا فى مصرَ، فعليكَ أن تسألَه: أىُّ مصرَ تقصدُ؟ وهنا لديكَ مستويان من السؤال: رأسىٌّ وأفقىّ. الرأسىُّ هو الزمن. أىْ العصور والحِقَب التى مرّتْ بها مصرُ؛ فعن أىِّ مصرَ يتحدثُ محاوِرُك؟ أمصرُ الفرعونيةُ العظيمةُ؟ أمْ الفارسيةُ بعدما سقطت فى يد قمبيز؟ أمْ اليونانيةُ بعد أن دخلها الإسكندرُ المقدونىّ ثم حكمها البطالمة؟ أم الرومانية؟ أم البيزنطية؟ أم مصر المسيحية؟ أم الإسلامية بعدما استولى عليها العربُ؟ أم تُرى مصرُ المملوكية؟ أمْ العثمانية؟ مصرُ المستعمرَة البريطانيةُ، أمْ مصرُ بعد استقلال 1922 الجزئى؟ أمْ مصر بعد جلاء 56؟ أم تراه يقصدُ مصرَ الحديثة؟ وإذا كان فأىُّ حداثةٍ يقصدُ؟ هل مصرُ محمد على ومَن تلاه من آلِه ونسْلِه؟ مصرُ الليبرالية الراقية أيام كان بها مفهوم رفيعٌ عن المواطَنة كحقٍّ للجميع؟ وأيام كان بها أحزابٌ «حقيقية»؟ أم مصر الدينية التى تتناحر أطيافها العقائديةُ لصالح وأد وحدتها؟ أمملكةُ مصرَ حتى منتصف القرن الماضى؟ أم مصرُ الجمهوريةُ بعد ثورة يوليو، تحت حُكْم العسكر، وما تلا ذلك من أمصار (أقصد: جمع مصر، وليس بمعنى أصقاع وبلدان)؟ وصولا إلى مصرَ الراهنةِ، تلك التى تنظرُ خلفَها، وأمامَها، فى غضب؟
فلو أجابكَ سائلُك بأنه إنما يقصدُ مصرَ الراهنةَ، فيأتى هنا المستوى الأفقىُّ للسؤال. فبادرْ بسؤاله: أىُّ مصرَ تقصدُ؟ مصرُ الحكومةُ؟ أم مصرُ المصريينَ؟ أم مصرُ الوطن؟ فالحكوماتُ زائلةٌ ومَنْسيةٌ، وإن تأبّدتْ. الطيبةُ منها والشريرة، تسقطُ من ذاكرة الناس، وتتحوّل إلى بضعةِ أسطرٍ فى هامشِ كراسات التاريخ، التى كثيرا ما تكذبُ وقليلا ما تصدق.
على أنها تظلُّ مرجعَنا الأوحدَ لكى نتعرّفَ على تلك الحكومات بشرِّها وخيرها، إن وُجِد، فنصدّقُ ما نصدّق، ونمحو ما نمحو. كلُّ النُظُم تُنسى، كما يُنسى زعماؤها. وحدَها النُظُمُ مُسْرفةُ الشرِّ، أو مُسْرِفةُ الجمال، تبقى فى ذاكرةِ الناس. مثلما هتلر، وجنكيز خان، أو غاندى وعمر المختار ونابليون. (الحكم على زعيم يكون طبعا من وجهة نظر وطنه، فلا يجوز أن نحكم على المختار من وجهة نظر إيطاليا مثلا، ولا على غاندى من وجهة نظر بريطانيا، وإلا انقلبتِ الموازينُ؛ فهتلر الذى نُخوّفُ به أطفالَنا، مُحِبٌّ مخلصٌ لبلاده) أو تلك الشخصيات الملتبسَة التى لا تعرفُ هل تحبُّها أم تحنقُ عليها؟ مثل: ماو تسى تونج، وصدام حسين؛ (مازلتُ عاجزةً عن تكوين رأى محدد فى صدام حسين، نصفُ قلبى يحبُّه، والنصفُ الآخر حانقٌ عليه!). هذه إذن مصرُ الحكومة، متغيّرةٌ متعاقبةٌ متأرجحةٌ غيرُ ثابتةٍ، ومن ثم لا يجوزُ اعتبارُها، الحكومات، جزءًا أصيلا من مصر. فلا يُحسب لمصر، ولا يُحسَب عليها، ما ترتكبه حكوماتُها من جمال أو من طيش. وأما مصرُ «المصريين»، فأيضا متحوّلةٌ وغير ثابتة. فمواطنو مصر، فى عهد الفراعين، غيرهم فى عهد المملوكيين، غيرالمصريين «العرب»(!). كما أن المصريين فى عشرينيات القرن الماضى وحتى الستينيات الماضية، لا يشبهون «مطلقا» مواطنى مصر الآن! للأسف.
أما مصرُ «الوطن»، وعشرةُ خطوطٍ تحت كلمة «وطن»، فشىء عابرٌ التاريخَ عابرٌ الجغرافيا عابرٌ المِحَنَ وعابر النُظمَ، كما هو عابرٌ الاقتصادَ والمصالحَ والعقائدَ والآراءَ والأحزابَ. هو فى الحقيقة عابرٌ كلَّ شىء عدا فكرة «المواطَنة». وهنا، أنا لا أكتب كلاما شِعاريًّا مما قتله الشعراءُ والمناضلون قولا وهتافًا! لا والله أبدا. بل أتكلّمُ عن لسعةِ البرد الفاتنة التى تنزلُ على القلب الساخن فتبهجُه، وقتَ نسمعُ كلمة «مصر». عن ذلك الشعور بالراحة حينما تحطُّ طائرتُك على مهبطِ مطار مصر، حتى إن لم تغادرها سوى يومين. عن تلك الغبطة الطفولية التى تغمرُنا، نحن المصريين، وقتَ تفاجئُنا كلمة Egypt فى روايةٍ إنجليزية أو على لسان غير عربىّ. عن تلك الخُيلاء التى نعتمرها ونحن نخبرُ أطفالَنا أن مصرَ هى البلد الوحيد فى العالم الذى اِشْتُقَ منه اسم عِلْم هوEgyptology!
تبًّا لتداعى الأفكار! تصوروا أننى بدأتُ المقالَ بنيّةِ الكتابة عن أم كلثوم، بمناسبة ذكرى رحيلها قبل ثلث قرن وعام ، إذا بى أتجاوزُ عددَ الكلماتِ المخصصة لى، دون حتى أن أبدأ موضوعى! حقًّا إن مصرَ تأخذُنا، بعيدًا وعميقًا، شِئنا أم أبينا! لكننى لن أمحو ما سطرتُ، فتلقائيةُ القلمِ لا تُمحى!
كلُّ ما هنالك أننى أستمعُ الآن إلى قصيدة «وقف الخلقُ ينظرونَ جميعًا، كيفَ أبنى قواعدَ المجدِ وحدى/ وبناةُ الأهرامِ فى سالفِ الدَّهرِ، كَفَوْنى الكلامَ عندَ التَّحدى/ أنا تاجُ العَلاءِ فى مَفْرَقِ الشَّرقِ/ ودُرّاتُه فرائدُ عِقْدىِ/ إن مجدى فى الأوْلياتِ عريقٌ/ مَنْ لهُ مثلُ أوْلياتى ومجدى؟/ أنا إنْ قَدّرَ الإلهُ مَمَاتى، لا ترى الشرقَ يرفعُ الرأسَ بعدى/ ما رمانى رامٍ وراحَ سليمًا، مِنْ قديمٍ عنايةُ الله جُندى»، للثلاثى العبقرىّ: حافظ إبراهيم- رياض السنباطى- أمّ كلثوم، فتأملتُ كم هى مصرُ «الوطن» محظوظةٌ! فأىُّ وطنٍ، فى كلِّ العالم، حظى بصوتٍ مثل صوت أم كلثوم، ليغنى فيه ويتغنّى به، مثلما غنّت وتغنّت أم كلثوم فى مصرَ. وبمصرَ؟ من فضلكم افخروا بمصرَ مثلى، وبمَن أنجبتْ مصرُ.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة