جمال البنا يواصل الحكايات

كل وزراء القوى العاملة حضروا محاضراتى وتتلمذوا على يدى بمن فيهم عائشة عبدالهادى

الخميس، 05 فبراير 2009 11:39 م
كل وزراء القوى العاملة حضروا محاضراتى وتتلمذوا على يدى بمن فيهم عائشة عبدالهادى
كتب وائل السمرى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
◄كان سكرتير «النقابة العامة للغزل والنسيج» نقابيًا عريقـًا على صلة بالإخوان فدخلت الجمعية العمومية للنقابة كعضو مرشح لمجلس الإدارة وفزت بعضويتها.. ثم ســمعت بأذنى عاملاً يهمس لآخـر: «الشــاب ده مش عامل.. ده عامل عامل!»
◄دخلت فى مناظرة مع أستاذى السابق حول الربا الذى كان يحرمه بينما كنت أرى أنه مقصور على «النسيئة» وأنه يمكن أن يقبل فى حدود محتملة ومعقولة

يواصل المفكر جمال البنا سرد أسراره لـ«اليوم السابع» للأسبوع الرابع على التوالى، وفى الحلقات السابقة ذكر البنا شهادته عن عصره وعلاقته بأبيه «أحمد عبدالرجمن البنا» وأخيه حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين وألقى الضوء على كان ما يتمتع به الأستاذ «حسن البنا» من سماحة أخوية حميمية، وكيف أنه كانت له آراء معتدلة فى إعطاء المرأة حقها السليب من الحرية والمساواة بالإضافة إلى شهادته التاريخية عن عصره، ثم أدلى بالمزيد من الأسرار عن الفترة المتقدمة من شبابه التى شهدت بداية انخراطه فى المجتمع الفكرى والسياسى، وظروف اعتقاله واشتراكه مع أحمد حسين باشا فى الحزب الاشتراكى وتجربته مع المؤسسة التعليمية فى عصره وأسباب عدم انتظامه فى الدراسة، وبداية اعتماده على نفسه فى تشكل عقليته البحثية، وفى هذه الحلقة يتحدث البنا عن المراجع والكتب التى شكلت وجدانه وأثرت فى عقليته كما يلقى الضوء على بداية اهتمامه بالعمل النقابى، وكان البنا قد ختم الحلقة السابقة بسؤاله لنفسه هل كان جمال البنا يقدر خطورة هذا القرار؟ أو أنه كان مسيرًا لمصيره الذى أراده الله له قبل أن يصطنعه هو لنفسه؟ وفى هذه الحلقة يجيب عن هذا السؤال قائلا: إنه لا يعلم، ولكنه يعلم أنه لم يتردد أبدًا فى اتخاذ هذا القرار، بل ولم يندم عليه وظل حتى اليوم يعتقد أنه اتخذ القرار السليم.. وإلى نص الحلقة:
مع أن (جمال البنا) رفض طريق البورجوازية (أى الثانوى فالجامعة) فإنه قبل تحت إلحاح الأسرة أن يدخل مدرسة التجارة المتوسطة بالجيزة لمدة ثلاث سنوات، وقبل جمال البنا حتى لا يخيب آمالهم، وكانت وقتئذ فى ميدان الجيزة بجوار شركة إيسترن للسجاير، وبجانبها ترعة صغيرة، ولها ملاعبها، خاصة بكرة القدم، وكان جمال البنا أصغر طلبتها سنـًا وحجمًا، إذ كان من طلبتها من يحتفظ بشارب أنيق، وكان حارس المرمى فى فريق الكرة طالبًا طويلاً عريضـًا معروفـًا لدى الكرويين، أما الأساتذة فمعظمهم أصبح بعد ذلك من الأساتذة النابهين فى كلية التجارة وكان ناظرها الدكتور لهيطة رجلاً لطيفـًا نشأت بينه وبين جمال البنا علاقة، وزاره بعد التخرج بسنوات فى بيته فى مصر الجديدة، وكان فى أيامه الأخيرة يريد أن يرصع بعض كتبه بآيات قرآنية، كما كان من الأساتذة الأستاذ عيسى عبده إبراهيم الذى أصبح من أبرز رجال الاقتصاد الإسلامى، وكان قد اتصل وقتئذ بالإخوان، وأخذ يتعرف على طلبة الفصل واحدًا واحدًا، وكان من بينهم شاب وسيم له شارب فأطلق عليه «كلارك جيبيل» وشاء الله أن ينشأ نوع من الصداقة بين جمال البنا وأستاذه فزاره فى بيته، وفى إحدى المناسبات طلب منه أن يختار مساعدًا له فاختار جمال البنا مساعدًا، كان ملاكمًا، وبعد أسبوع جاء الرجل صارخـًا أنه لا يطيق متابعة عيسى إبراهيم الذى كان يعمل حتى ما بعد منتصف الليل، ثم يأتى فى السادسة صباحًا ليستأنف قبل أن يذهب إلى الكلية (وكان قد أصبح أستاذاً بكلية التجارة) بل أكثر من ذلك دخل جمال البنا مع أستاذه السابق فى مناظرة حول الربا، وكان الدكتور عيسى عبده يحرمه قطعيًا، بينما كان جمال البنا يرى أنه مقصور على «النسيئة» وأنه يمكن أن يقبل فى حدود محتملة ومعقولة.

بعد ثلاث سنوات 1934- 1937 تخرج جمال البنا فى مدرسة التجارة وأخذ دبلومها وزج به فى أحد المكاتب ونساه تمامًا، وتفرغ لمواصلة تأسيسه الثقافى بطريقته المحببة وهى «المطالعة».

أشرنا إلى التأسيس الأولى الذى بدأ من الطفولة عندما كان جمال البنا يتصفح «اللطائف المصرية» و«الأمل» وغيرها فى مكتب والده، وقد انتقل من هذه إلى روايات الجيب التى كانت تترجم عيون الأدب الأوروبى فى الرواية، فقرأ لـ تولستوى وديستوفسكى وأندريه جيد وغيرهم، وكانت هذه الترجمات ترجمات سليمة إلى حد كبير، وكان العدد يصدر فى ثلاثمائة صفحة ويباع بقرش واحد (ولأبناء هذا الجيل الذين لم يروا القرش نقول : إنه واحد من مائة، كان كالجنيه المصرى، وكان الجنيه المصرى يعادل الجنيه الإسترلينى) وبعدها انتقل إلى الأدب الشعبى مثل ألف ليلة وليلة وذات الهمة (فى 10 مجلدات)، وسيف بن ذى يزن التى أعجب بها، ورأى أنها صورة من المثيولوجيا العربية/الإسلامية، فهى تحفل بحروب وسحرة وكهان ومعجزات وحكماء ينزلون من السماء وفروسية وحروب، ولا يزال حتى اليوم يرى أنها يمكن أن تأخذ شكل «المثيولوجيا» ويمكن أن تكون أصلاً لقرابة عشرين أو ثلاثين رواية، وبعد هذا النوع من الأدب انتقل إلى الأدب العربى الرفيع، فقرأ العقد الفريد لابن عبد ربه، وقرأ الأغانى للأصفهانى، وكان بمنزل الأسرة نسختان ،نسخة فى مكتبة الشقيق الأكبر ونسخة فى مكتبة الشقيق عبدالرحمن، وقرأ تاريخ بغداد لابن الخطيب وغاص فى بحاره، وقرأ البيان والتبيين والبخلاء للجاحظ.

بالنسبة للشعر فإنه قرأ المعلقات وقرأ «المنتخب فى أدب العرب» بجزئيه، وكانت وزارة المعارف تقدمه لطلبة الثانوية، كما كانت تقدم أدب الدنيا والدين للماوردى، ولكنه لم يكن يعدل أحدًا من القدامى بالمتنبى ولا فى المحدثين بشوقى، وقد حفظ شعريهما تقريبًا، أى ديوان المتنبى والشوقيات بأجزائه الثلاثة، ومصرع كليوباترا، ومجنون ليلى، وكان يرى فى شوقى مثالاً للعبقرية التى تصنعها مصر فيمن دخلها من أجناس، فشوقى يعود بآبائه إلى أصول تركية، وإلى أمهاته بأصول يونانية، وقد صهرت مصر هذا الخليط وجعلته مصريًا.

وقرأ فى الأدب العربى لطه حسين والعقاد وهيكل وتوفيق الحكيم ولكنه لم يعجب بأسلوب طه حسين لما فيه من تكرار، ولا بأسلوب العقاد لما فيه من جفاف، وكان فى طبع جمال البنا ككاتب عرق فنى جمالى، أما هيكل فكان أسلوبه ممتازًا، كما كان توفيق الحكيم موفقـًا فى الحوار، وقد أعجب بتوفيق الحكيم لأنه عنى بالقضية الدينية وراجع مختصرًا لتفسير القرطبى وكتب عن «التعادلية» وكان فنانـًا بحق، كما كان أمينـًا عندما تحدث عن غيبة الوعى فى الحقبة الناصرية، أما الذى حقق لجمال البنا الأسلوب الذى يعجبه فكان أحمد الصاوى محمد وكان يصدر «مجلتى» التى كانت تكتب بالعربية ولكن بروح أوروبية حديثة، وكان الصاوى يوشح عباراته بنوع من «العاطفية» أشبه بــ«الدانتيلا الخفيفة» وكانت «مجلتى» لا تقل فى أثرها الأدبى لدى النخبة عن الرسالة بالنسبة للعامة، وكان للصاوى ذوق فنى فى تجميل الطبع، ووضع الكلمات فى الصفحات وطبع الصور على ورق «الكوشيه» وتبويب مادة العدد، كان فى الصحافة الأدبية مثل التابعى فى الصحافة الإخبارية.. إلخ، وكانت بتحريرها مقابلاً للرسالة الأكثر شعبية وأكثر تمسكاً بالروح العربية، وكان الأسلوب الذى نهجه الكاتب العربى القدير مصطفى صادق الرافعى فى كتاباته الأخيرة والقصصية فى الرسالة مماثلاً لأسلوب الصاوى ولكن فى نسق عربى بليغ -العربى التقليدى- فى مقالاته الأخيرة بمجلة الرسالة، بينما كانت كتابات الصاوى موشاة بمسحة أوروبية.

وكانت لجنة النشر للجامعات تصدر عددًا من الكتب المترجمة ترجمة رفيعة بأقلام كتاب مثل محمود محمود وفخرى أبو السعود (الذى انتحر عندما غرقت زوجته وابنته فى البحر فى طريق العودة من إنجلترا إلى مصر) وكان فخرى أبو السعود هو الذى ترجم رواية هاردى الطويلة «تس من آل دربرفيلد».

ومن أجمل ما ترجمه محمود محمود كتاب «العالم الطريف» الذى يحمل بالإنجليزية اسم The New Brave World وهى مقطع من شكسبير، والكتاب تأليف توماس هكسلى وصدر فى الثلاثينيات، وصور عالم الغد الذى يقوم على أساس طبقى، فتربى كل طبقة على أن تكون راضية بوضعها من أيامها الأولى، ولا توجد فى هذا المجتمع ولادة، بل ينظر نساؤه إلى هذه الكلمة كنوع من «الهُجر» ولكن يربون فى أنابيب ثم يشبون منها فى حضانات تخضع لمؤثرات سيكولوجية، بالإضافة إلى التحكم الكيميائى فى الأنابيب بحيث تكون كل طبقــة راضية، إن هذا المجتمع يعيش على الأرض، إلا أن صلاته بالكواكب يومية، وعندما تنتاب بعض أفراده كآبة فإنه يتناول بعض أقراص «الكولا» التى تذهب به إلى عالم سحرى، أما إله هذا المجتمع فهو فورد (لاحظ أن فورد فى الثلاثينيات كان أكبر شخصية أثرت فى وضع المجتمع عندما توصل إلى السيارة)، كما كان من الكتب التى أعجب بها كتاب أندريه موروا «دزرائيلى» الذى صور تصويرًا روائيًا رائعًا نشأة «ديزى» وآماله وتطلعاته ومحاولاته الأولى فى الكتابة، ثم رواياته وعلاقاته بالنساء حتى انتهى بأن يكون رئيس الوزارة ومجدد حزب المحافظين والصديق الأثير للملكة فيكتوريا، ويذكر أنه اشترى عددًا من نسخها كان يعطيها لأصدقائه ليطلعهم على الأسلوب الأخاذ، وكان جمال البنا معنيًا بالرواية أو المسرحية السياسية فقرأ «الأفواه اللامجدبة»، وقرأ «العدول» للبير كامو، وكان قد قرأ له كتابه فى الأدب السياسى «المتمرد»، كما كان بالنسبة للأدب الأمريكى الحديث معجبًا بالكاتب إيتون سنكلير ورواياته ضد الرأسمالية «الغابة» و«البترول» و«الصلب الصغير»، فضلاً عن سلسلة رواياته التى أصدرها عن الحرب العالمية الثانية.

وأعجب جمال البنا بالكاتب أرثر كوستلر عندما قرأ روايته «ظلام فى الظهيرة» التى صورت الحقبة الستالينية وتوصل إلى سر اعترافات كبار رفاق لينين ومؤسسى ثورة أكتوبر على أنفسهم بالخيانة وغيرها، وتعقبه فى روايات عديدة بما فى ذلك زيارته لإسرائيل.
كما كان حريصًا على القراءة لستيفان زفايج وهو أيضًا كاتب تراجم وروايات وقد انتحر هو وزوجته لأنهما لم يستطيعا تحمل مأساة الحرب العالمية الثانية وما فيها من مجازر وبوجه خاص ما ترامى عن إبادة اليهود.

وبعد هؤلاء ظهر «أورويل» عندما وضع «مزرعة الحيوان» الذى نفذ فيه التجربة السوفيتية وتحدث عن قائمة المبادئ التى انتهت إلى «أن الحيوانات متساوية، فأصبحت الحيوانات متساوية، ولكن بعضها أكثر مساواة من بعض» وكان قد تحدث قبلاً عن نشأته فى مناجم الفحم، وفى مرحلة لاحقة كتب سنة 1984 وتنبأ بعالم رهيب يحكم فيه «الأخ الكبير» بطرق التجسس المثبتة فى كل بيت وكأنها التليفزيون والتى تكون فيها وزارة السلم هى وزارة الحرب، ووزارة الثقافة هى وزارة تزييف المعرفة.. إلخ.

واكتشف خلال قراءاته الاقتصادية الكاتب المبدع بيتر دركر Peter Drucker وكتابه «نهاية الرجل الاقتصادى» وكان يروق له أن يقارن بينه وبين كتاب «نهايـة التاريخ» للكاتب اليابانى الأمريكى فوكوياما، وتابعه عندما بدأ يكتب عن الإدارة، وكان دركر من رواد نمط جديد فيها، كما استمتع بقراءة كتاب «خواطر عابر سبيل» الذى تحدث فيه عن بعض الأحداث فى حياته، والشخصيات التى تعامل معها مثل كيسنجر الذى جاء هاربًا يريد العمل فى أى كلية، ولكن بيتر جعله يعمل فى هارفارد، وقد فقد جمال البنا كتابه الأخير وطلبه من ناشره الذى أفاد بأن النسخ نفدت وأنه بصدد إعادة الطبع.

وكان لابد أن يلم بالأدب والتاريخ الإغريقى، وقد تجاوب مع سقراط وأفلاطون ولكنه شعر بالعزوف عن أرسطو ووجد فيه الفيلسوف الأكبر للعنصرية الأوروبية الذى يرى أن أقصى شرف للشعوب الأخرى هو أن تخدم اليونان، فضلاً عن كراهيته منطقه الصورى الذى أساء إلى الفكر الأوروبى والإسلامى، بل والفقه الإسلامى.وقرأ قرابة عشرة كتب عن الميثلوجيا اليونانية، كما قرأ كتاب «الأبطال» لبلوتارك الذى تأثر به نابليون والعديد من أبطال أوروبا.

أما تاريخ الإمبراطورية الرومانية فكان بالطبع لابد أن يقرأ موسوعة جيبون «ظهور وسقوط الإمبراطورية الرومانية» على أنه وجد بغيته فى كاتب بريطانى غير مشهور هو روبرت جريفز وكان أستاذاً للغة الإنجليزية بالجامعة المصرية حينـًا، وكتب ثلاثة كتب كبيرة بشكل روائى عن الفترة الذهبية فى تاريخ روما أولها باسم «أنا كلوديوس»، والثانى «كلوديوس الإله» فى جزأين، والكتب الثلاثة فى قرابة سبعمائة صفحة، وتضمنت كل ما عرض للإمبراطورية من شذوذ وغرائب ومفارقات ما بين المجد والسقوط.

هذه أمثلة عارضة لأبرز ما قرأه ولا تزال عالقة بذهنه بعد مضى ستين عامًا، أما الحقيقة فهى أنه فى الخمسينيات والستينيات يقرأ كتابًا عربيًا كل يوم وكتابًا إنجليزيًا كل يومين أو ثلاثة.

وخلال هذا التطواف الثقافى وقف جمال البنا أمام فئتين هما النساء والعمال، وكانتا أكبر فئات المستضعفين والمستذلين، فدرس حركة الفيمنزم Feminism فى بريطانيا منذ أن كتبت مارى ولستونكرافت Mary Wollstonecraft كتابها «إثبات حق المرأة» حتى كتاب جون ستيوارت «إخضاع النساء» The Subjection of Women وبدأ فى ترجمته حتى ظهور حركة المصوتات أى اللائى طالبن بأن يكون للمرأة صوت انتخابى suffragette من بداية نشاطاتها وظهور العائلة الثورية «بانكهرست» وابنتيها كريستابل وسيلفيا حتى ألقت الآنسة إميلى دافيسون نفسها تحت أقدام جواد الملك فى الدربى وقتلت.

وتتبع جمال البنا قضية المرأة، ورأى أنها كانت طوال العصر الأبوى الذكورى ضحية لاستغلال الرجل، وأن اليهودية حملتها مسئولية الخروج من الجنة، والمسيحية حملتها مسئولية الخطيئة، وأن الإسلام أراد إنصافها ولكنه لم ينجح تمامًا لقصر مدة حكم الرسول للمدينة ولأسباب أخرى عديدة، دع عنك الآثار التى خلفها فيلسوف مثل أرسطو الذى قنن دونية المرأة حتى شوبنهور الذى كان كارهًا للمرأة، وأن المرأة لم تنل كل حقوقها حتى مشارف العصر الحديث، وكتب جمال البنا أربعة كتب عن المرأة، وظفر كتاب «الحجاب» بشهرة وطبع ثلاث أو أربع مرات.

أما العمال فقد جذبت قضيتهم جمال البنا إلى الحركة النقابية التى أعجب بها بل آمن بها ورأى أنها كما قال فى أحد كتبه «بعد الأديان مباشرة وقبل الديمقراطية والاشتراكية تأتى الحركة النقابية» ورأى أنها أكثر من أى هيئة أو نظرية أو كفاح، هى التى نهضت بمستوى الشعوب والجماهير، وتوصلت لذلك لأنها أبدعت تكتيكاً ناجحًا ينقذ العمال من جحيم الرأسمالية التى أرادت للعمال وجودًا دون حياة.. ودون موت ولرفع مستوى المعيشة وزيادة الأجور ومساهمة العمـال فى وضع شروط العمل، بطريقة فنية، عمالية، بعيدة عن صخب العمل السياسى وتحولاته وانزلاقاته، وكان لدى جمال البنا تعاطف مع العمـال، وفى صباه الأول كان منظر العامل المنبطح أرضًا تحت سيارة يصلحها يبدو له أجمل من راقصة، ولهذا فإنه أقبل على دراسة الحركة النقابية فى بريطانيا التى ظهرت بها أول مرة، كرد فعل لظهور الثورة الصناعية، وتطرق إلى دراسة اقتصاديات بريطانيا وإلى فلسـفة «القانون العام» الذى كانت المحاكم تحكم به وتصدر قوانين تعتبر النقابات تآمرًا يقيد حرية التعامل، فغاص فى بحر من المراجع بدءًا من ظهور الثورة الصناعية التى أدت إلى ظهور العمال حتى الفترة الذهبية فى تاريخ عمال بريطانيا عندما ظفر حزب العمال بأغلبية أصوات مجلس العموم وكون أول وزارة عمالية سنة 1945، وكيف بدأت هذه الحكومة سياسـة «الرعاية»، وأرادت أن توضع الميزانيات «على أساس إنسانى، وليس على أساس اقتصادى»، قرأ جمال البنا مئات الكتب بالإنجليزية قبل أن يضع كتابه عن الحركة العماليـة فى بريطانيا، وهو الكتاب الذى لم يظهر، ويبـدو أنه لن يظهر، لأنه مسودات لم توضع فى صفتها الأخيـرة، وترجم فى الستينيات تقارير لجنة الحرية النقابية بمكتب العمل الدولى فى جينيف عن الحركة النقابية فى بريطانيا، والولايات المتحدة، والاتحاد السوفيتى، وبريطانيا، والسويد، وبورما، والملايو، كل تقرير منها فى كتاب متوسط الحجم يدرس الحركة النقابية كجزء من مجتمعها ونشرت هذه الكتب الدار القومية فى الفترة التى قيل فيها إنها تصدر كتابًا كل تسع ساعات، وهناك قول فى ست ساعات . «ولو جيز الحفاظ بغير عقل» كما قال المتنبى، لكان جمال البنا أبعد الناس عن الحركة النقابية بحكم تكوينه الجسدى والنفسى أيضًا، إذ كان وقتئذ «جلدا على عظم» يزن 40 كيلو ويضع نظارة، وكان بالنفسية أرستقراطيًا، فنيًا، لا يمكن أبدًا أن يعد أحد القطيع، يؤمن بالجمهور ولكنه هو نفسه لا يمكن أن يكون أحد هذا الجمهور، ولكن لله فى خلقه شئون فقد وقع جمال البنا فى حب العمال وجعله يقوم بمحاولة أن يكون عاملاً بالفعل، فاتصل بأحد الإخوان الذين يملكون مصنعًا للنسيج فى بقعة، لعلها أكثر بقاع القاهرة شعبية هى «العطوف» واتفق معه أن يعمل بمصنعه كعامل لفترة ما، وحدث هذا بالفعل لمدة قرابة شهر ألم فيها بأساسيات إدارة آلات النسيج، وترك المصنع بعد أن أعطاه الرجل شهادة بأنه عامل بمصنعه، وبهذه الشهادة تقدم إلى «النقابة العامة للغزل والنسيج بالقاهرة وضواحيها» وكان سكرتيرها نقابيًا عريقـًا يمت للإخوان بصلة، فدخل الجمعية العمومية للنقابة كعضو مرشح لمجلس الإدارة وفاز بعضويتها.

كانت فكرة جمال البنا أن من يعمل للحركة النقابية يجب أن يلم إلمامًا عمليًا بعالم العمال، وكان قد قرأ عن تجربة لمدام بياتريس عندما كتبت كتابها الذائع عن الحركة النقابية وأنها انخرطت لفترة وسط عاملات الخياطة اللائى كن يخضعن لأسوأ صور الاستغلال، على كل حال، لقد كان أمينـًا فى محاولته، ولكنها كانت غير طبيعيــة لأنه لم يكن بالطبيعـة عاملاً، وقد ســمع بأذنـه عاملاً يهمس لآخـر: «الشــاب ده مش عامل.. ده عامل عامل!» واختير مراجعا للحسابات فى مجلس الإدارة، وكان رئيس النقابة شخصًا ديماجوجيًا بمعنى الكلمة له اتجاه شيوعى/وفدى يدعى محمد على عامر ويطلقون عليه «شيخ العرب»، وبعد فترة نشأ شقاق ما بينه وبين جمال البنا.

وتحير مجلس الإدارة، فانتهى باستبعاد الاثنين، وكان الفريق الموالى لجمال البنا قد وضع هذه الخطة ليتم التخلص من محمد عامر، ثم يمكن أن يستعيدوا جمال البنا، وقد حدث بالفعل وكتبوا إليه خطابًا رسميًا باستعادة عضويته فى مجلس الإدارة، ولكنه كان قد عزف عن العمل النقابى، وتبين أنه ليس مكانه، وأن مكانه هو «ترشيد» الحركة النقابية المصرية التى لم يكن لديها أدنى فكرة عن عمل نقابى رشيد، وهكذا اعتزل العمل الميدانى ليرجع إلى ميدانه المحبوب، القراءة والكتابة ، وكان ثمرة ذلك قرابة ثلاثين كتابًا عن الحركة النقابية فى مختلف دول العالم أو فى جوانبها المختلفة كالحرية النقابية والديمقراطية النقابية والتنظيم والبنيان النقابى.

وتأسست فى أواخر الخمسينيات «المؤسسة الثقافية العمالية» وتزعمها شخصان بارزان من موظفى مصلحة العمل هما عبدالمغنى سعيد وأمين عز الدين، وكان لجمال البنا معرفة عابرة بهما، وعين عبدالمغنى مديرًا لها، ورأى جمال البنا فيها لقطة من السماء كما رأت المؤسسة فيه ذلك أيضًا، فلم يكن هناك شخص آخر لديه الإلمام العلمى بالحركة النقابية، فأوكل إليه إلقاء المحاضرات الثقافية فى المراكز النقابية التى أقامتها فى القاهرة ولعدة سنوات أخذ جمال البنا يذرع القاهرة من شمالها لجنوبها ومن شرقها لغربها ليقدم محاضرات لعشرة مراكز فى القاهرة، وكان معظمها مشيًا على قدميه، وإلى هذه الفترة من السير الطويل يعيد جمال البنا احتفاظه بدرجة كبيرة من اللياقة الصحية عندما تقدم به العمر، وفى أكتوبر سنة 1963 تأسس معهد الدراسات النقابية بالدقى، وعهد إلى أمين عز الدين بوضع نظامه وهو أفضل شخص فى مصر يقوم بهذه المهمة، وأخذ المعهد فيلا وراء نادى الصيد وكانت الدراسة فيه إقامية، إقامة كاملة لمدة شهر، وخصص لكل دارس كتابًا عن موضوع الدراسة، كما وضع نظامًا للتغذية وللحصول على الصحف، وفى هذا المعهد درس معظم قادة الاتحادات العمالية العربية، فقد كانت تلك هى فترة القومية العربية، بما فى ذلك بالطبع كل وزراء العمل المصريين حتى السيدة عائشة عبدالهادى وزيرة العمـل الآن، أما المحاضرون فكانوا من أعلى أساتذة الجامعات المصرية مثل الدكتورة عائشة راتب والدكتور الطماوى والدكتور عز الدين فودة وآخرين، وبعضهم مديرو الجامعات، على أنهم رغم أستاذيتهم ما كانوا يحكمون الحركة النقابية، وكان جمال البنا هو الوحيد الذى يمكن أن يكون على مستواهم، وفى مناسبة ما عقد المعهد اجتماعًا للمحاضرين ووجد جمال البنا شخصًا لا يعرفه بجواره عرفه بنفسه على أنه مدير معهد تدريب الضباط وأن تلامذته من مقدم فصاعدًا، وهكذا بدأ جمال البنا محاضراته من الدورة الأولى للمعهد 1963 وظل يحاضر بالمعهد ثلاثين سنة متصلة من 1963 حتى 1993 بعد أن توفى عبدالمغنى سعيد وأمين عـز الدين وجاءت أجيال أخرى من العمـال.

لمعلوماتك...
30 سنة حاضر فيها البنا فى معهد الدراسات الثقافية
1937 تخرج جمال البنا من مدرسة التجارة






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة