فى مصر، وسط جبال سانت كاترين القاسية الرائعة، فى وادٍ شاسع، توقفت السيارة الجيب القديمة أمام بيوت قبيلة «الجبلية»، توقف محركها فسمعنا صوت الصمت بوضوح، خرجت «سليمة عواد»، بنت القبيلة من السيارة وبعد تحية قصيرة، أخرجت من حقيبتها الكبيرة خليطاً من الألوان الزاهية كألوان ثياب الفتيات اللاتى بدأن فى الالتفاف حولها مع الأكبر سناً فى أثوابهن السوداء، التزمنا بنصيحة سليمة بألا نقوم بأى محاولة لتصوير نساء قبيلتها، وزعت «سليمة» أقمشة القطن والحرير والخيوط والخرز بألوان وأشكال شتى ودَوَّنَت ما ستقوم به كل سيدة من عمل، كنت قد بدأت حديثاً مع فتاة اسمها «صالحة»، وعندما سألتها عن سنها استدارت لتسأل أمها: «أنا أتممت العشرين؟» فردت الأم بهدوء: «مازلتِ فى التاسعة عشرة »، لا تعلم صالحة سنها ولكنها متأكدة مما تريد.
مدت يدها وأخذت المزيد من حقيبة «سليمة» قائلة: «هذا قليل.. أريد أن أعمل أكثر»، رفضت سليمة فهناك المزيد من النساء ينتظرن نصيبهن فى أودية أخرى، جلسنا وتحدثنا وشربنا الحبق وعلمت أن «صالحة» وبنات جيلها لم يعرفن شيئاً عن التطريز البدوى إلا عندما وفرت لهن «سليمة» المواد اللازمة فتعلمن من أمهاتهن شغل الزهرة وورقة الشجرالمميزة بجنوب سيناء، غادرنا بالسيارة على أن تعود سليمة بعد أسبوع أو أكثر لتجمع ما تم تطريزه فى ساعات النهار الجبلية، كان والد »سليمة« التى تبلغ الآن الخامسة والثلاثين، يشجعها على استكمال تعليمها متحديا فى ذلك تقاليد قبيلته.
بعد وفاته، لم تستطع «سليمة» مواصلة التعليم فاكتفت بالشهادة الثانوية وقررت الدخول فى تحدٍ أصعب، أرادت العمل خارج المنزل، كان عليها الاختيار: إما البقاء وسط أهلها لخدمتهم وخدمة نفسها وتحمل كل الصعوبات وكلمات الاستهزاء من نساء قبيلتها، أو تفادى كل ذلك والرحيل للعمل فى مكان بعيد، بقت «سليمة» وبدأت منذ عشر سنوات مشروع «فن سينا» وحصلت على مساعدة برنامج الاتحاد الأوروبى فى محمية سانت كاترين، كان معها خمس فتيات يتعلمن التطريز، اليوم، 365 فتاة وسيدة من سيناء يتدربن ويتعملن معها، يكسبن قوتهن ويتعلم أولادهن وتتحسن معيشتهن، وربما لا تعلم سيدات سيناء تماماً أن عملهن يحمى فناً كاملاً من الانقراض ويرحمنا ويرحم السائحين من أشكالٍ رخيصة تقلد «فن سيناء» تقليداً سطحياً خاطئاً، أما مُستهزِئات الماضى فأصبحن يرسلن لها بناتهن إلى المركز فى سانت كاترين لتعلم الكمبيوتر، أو تذهب «سليمة» إليهن فى وسط الجبال وتساعدهن على محو الأمية وتوفر لهن بعض الخدمات الطبية البسيطة، لم تطلب «سليمة» من أحد أن يغير من نفسه أو تقاليده تحت شعار التطوير، ولم تطلب بافتعال ألا يغير أحد من شىء تحت شعار حماية التراث، الثابت هو التغيير، وما تغير على يد سليمة هو أسلوب التغيير.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة