كانت دافئة، حالمة، سابحة، ناعمة، يستأنس الأحباب بظلها الوفير، ويترقبونها كما يترقب الفلاح ظهور «البشاير» ويتلهفون إليها كما يتلهف الأطفال العيد، يفضلونها على كل الكلمات ومن أجلها يسهرون الليالى الطوال.
لحظة النطق بكلمة «أحبك» تشبه لحظة الميلاد الحقيقى، ميلاد يكاد يعيد عملية الولادة بكل تفاصيلها، مع وجود فارق وحيد، ففى الولادة الحقيقة يتم انفصال الجنين عن الأم وقطع للحبل السرى الذى يربطهما، أما فى لحظة نطق كلمة أحبك خالصة من القلب يتم دمج الحبيب بحبيبه بالرباط الأبدى.
كان النطق بهذه الكلمة حلما يراود الرجل والمرأة أملا فى النعيم المقيم، كل الجوارح تستعد لهده الكلمة كما لو كان اللسان يعجز وحده عن تحملها، فى وصف هذه الحالة الرهيفة الشفافة يقول الشاعر أحمد عبد المعطى حجازى:
أحبّك؟ عينى تقول أحبّك
ورنّة صوتى تقول
وصمتى الطويل
وكل الرفاق الذين رأونى قالوا.. أحب
وأنت إلى الآن لا تعلمين!
فما أقسى مصارحة الحبيب لحبيبه بالحب، على الرغم من اشتياقهما لها أشد الاشتياق، وكان لهذه اللحظة من التهيؤ والاستعداد ما لها، كان الأصحاب إذا ما أحب واحد منهم يجتمعون حول مائدة الحب العامرة، منها جميعهم يأكلون، وبحرارتها يستدفئون، حتى إذا ما قرر «الواقع» فى الحب أن يصارح حبيبته بمشاعره الدفينة، يرسمون له الخطط ويكتبون له السيناريوهات، ويلقمونه الردود المتوقعة، حتى إذا عاد من أجمل الأزمات، يتحلقون حوله ليعرفوا ماذا دار من أحاديث؟ وهل خابت توقعاتهم؟ وكيف تم تنفيذ خططهم؟
على الجانب الآخر، تمكث الحبيبة لتنتظر لحظة إعلان الحب بشغف كبير، ممنية نفسها بكلمات أسطورية تحفظها وتستأنس بها إلى أبد الدهر، وعلى الرغم من أن هذه الكلمات لا تخرج عن قاموس الحب المتعارف عليه فإنها تحفظها وترددها فى السر وفى العلن، كما لو كانت كلمات مقدسة، أجمل أوقات هى لحظات انتظار الكلمة، رصد الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور هذه اللحظة فى قوله على لسان الأنثى:
لا! لا تنطق الكلمة
دعها بجوف الصدر منبهمة
دعها مغمغمة على الحلق
دعها ممزقة على الشدق
دعها مقطعة الأوصال مرمية
لا تجمع الكلمة
دعها رمادية
فاللون فى الكلمات ضيعنا
دعها غمامية
فالخصب شردنا وجوعنا
دعها سديمية
فالشكل فى الكلمات توهنا
دعها ترابية
لا تلق نبض الروح فى كلمة
هى نبض الروح، وماء الجسد، وفيها وحدها رائحة الحياة، فى هذه الحروف الأربعة تكمن مفاتيح السعادة المبتغاة، فلماذا نبخل على أنفسنا بالسعادة التى نعرف الطريق إليها ولا نريد أن نسلكه؟ لماذا نحرم أنفسنا مما قد يهب لحياتنا معناه ولوجودنا غاية؟ لماذا أصبحنا نكره الحب إلى هذا الحد الذى جعل الرجال يهربون من التصريح به، والاعتراف بآثاره، والذوبان فيه؟ لماذا أصبحت أجمل الكلمات أبعدها وأصبحت أرق اللحظات أقساها؟
لنزار قبانى قصيدة كتبها أيام الجفاف المشاعرى يقول فيها:
أحبك
يا ليتنى أستطيع استعادة
هذا الكلام الجميل
أحبك
أين ترى تذهب الكلمات
وكيف تجف المشاعر والقبلات
فما كان يمكننى قبل عامين
أصبح دربا من المستحيل.
لماذا أصبح معظم الرجال فى حالة العجاف هذه التى انتابت نزار قبانى وكتب على أثرها هذه القصيدة الثلجية، لماذا اعتلى الصقيع وجوهنا، فما عادت ملامحنا تشع بالحب ولا تعرفه ولا تتقبله، وتستنكره إن رأته فى عيون الآخرين، لماذا أصبحنا قساة إلى هذا الحد، لا نستقوى إلا على أرق المعانى وأكثرها احتياجا للاحتضان؟
هل أصبحنا فاقدى الثقة فى أنفسنا؟ أم أصبحنا فاقدى الثقة فيمن نحب؟ أم أصبحنا فاقدى الثقة فى العالم من حولنا وفى مدى تقبله لنا ومساعدتنا فيما نذهب إليه؟ وهل تملك الضعف منا إلى الدرجة التى تجعلنا نخاف من أقرب الناس إلينا؟ أم استعذبنا شعورنا باليتم، وفضلنا أن نواجه الحياة فرادى متلقين قسوة ظرفنا الاجتماعى وحيدين بلا حبيب يؤنسنا ولا قريب يهون علينا أحزاننا؟
لماذا يصمت الرجل إذا أحب وهو القادر بحكم تركيبه الاجتماعى والوجدانى على المبادرة؟ ولماذا يطول انتظار الأنثى رافضة أن تثور على نفسها وعلى سكونها فى مقابل جفاف الرجل؟
وللحديث بقية.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة