دائما ما نظرتُ إلى الطبيعة باعتبارها امرأةً متمردةً لا قِبل للإنسان، مهما تقوّى وتعلّم، أنْ يُروّضَها أو يكسرَ شوكتَها. فاتنةٌ وطاغيةُ السحر، لكنها جموحٌ حرونٌ رعناءُ ماكرة. تترك للإنسان حقَّ أن يتعلّمَ ويكتشفَ ويخترع، سوى أنها تدركُ أن سقفَ مُنجزه الاختراعىّ سيظل أبدًا تحت سطوتها. فلا الإنسانُ قَدِرَ يومًا على منع زلازلها أو براكينها، ولا استطاعَ تجنّبَ مكائدها من جبالِ جليدٍ تكشفُ أقلَّ مما تُخفى، فتفتِتْ سفنَه التى شيّدها، وتجعلُ من لحمِه طعامًا لحيتانها الجوعى. وأما التاريخُ، فأنظرُ إليه بوصفه الشابَ المستهتر الأرعنَ المقامرَ الذى لا قانونَ له؛ مهما ابتكر الفلاسفةُ من استقراءاتٍ تحددُ سلوكاتِه، لكى تحدسَ بأفعاله المستقبلية! يظلُّ، التاريخُ، عصرًا بعد عصر، يثبتُ للإنسان مدى وَهَنِه وقلّةِ حيلته وعقمِ حدْسه.
المقدماتُ والتوالى، الشواهدُ والنتائجُ، كلُّها مفرداتٌ تخصُّ معمل الكيمياء ودفترَ المعادلات الرياضية. لكن للتاريخ قوانينَ أخرى تتأبى على التحليل وتستعصى على الخضوع تحت مجهرٍ. فمثلما تقدرُ الطبيعةُ الجَموحُ أن تُنبتَ زهرةً جميلةً ملوّنة من قلبِ طمى أسودَ قاحلٍ، أو فى ركن صخرةٍ مهجورة فى أرضٍ خراب، يقدر التاريخُ أن يُنبتَ الزهرَ والجمالَ والسطوعَ من بين ركام العتمةِ والقبح.
تماما مثلما حدث فى إنجلترا أوائلَ القرن الثالث عشر. كان ملكٌ فاشىٌّ ظالمٌ شديدُ القبح اسمه كينج جون، على أن هذا القبحَ قد استنبتَ إحدى أجمل زهرات المنجز الإنسانىّ عبر التاريخ. الماجنا كارتا، أو الوثيقة العظمى. أولُ وأخطرُ ورقةٍ فى حقوقِ الإنسانٍ عرفها العالم. ذاك أن حُكمَ كينج جون الشمولىَّ فائقَ الرداءة أحنقَ عليه بارونات إنجلترا ونبلاءها، فتمردوا على بطشِه، وأجبروه أن يوقّعَ على عريضةٍ تضمنُ بعضًا من حقوق الناس المهدَرة.
وفى 15 يونيو 1215، وقّعَ الملكُ التعسُ تحت التهديد، وهو يُضمرُ ألا يطبّقها أبدًا. ثم سرعان ما ركضَ إلى بابا الكنيسة لكى يحلَّه من عهوده التى أُجبرَ على توقيعها. ولكن، بعد موته، وجلوس ابنه هنرى الثالث على العرش، ستُوثّق الماجنا كارتا رسميًّا وتُفعّلُ بنودُها، ليتم العملُ بمقتضاها حتى الآن فى إنجلترا، بل وفى مجمل بلدان أوروبا المتحضرة، وأمريكا.
تشتملُ الماجنا كارتا على عدة بنود تُشرّعُ مبادئ وحقوقًا للفرد الإنجليزىّ من غير العائلة المالكة الحاكمة. صحيحٌ أن تلك الامتيازاتِ كانت، وحسب، لصالح النبلاء و«الرجال الأحرار»، وهو ما لم يتجاوز وقتَها ربعَ سكان إنجلترا، إلا أنها فيما بعد سوف تنسحبُ على جميع المواطنين، بعد انتهاء العصر الإقطاعىّ الطبقىّ، لتعملَ بها كلُّ الحكومات الديمقراطية، والعياذ بالله، عبر العالم. تنصُّ الوثيقةُ على أن الملكَ نفسَه يخضع للقانون(!)، وأن تُسحبَ عنه صلاحيةُ أن يَسجِنَ مَن يشاء، ويُطلق سراحَ مَن يشاء، دون سندٍ قانونىّ. اشتملت الماجنا كارتا الأصلية على 63 بندًا، لم يعد الكثيرُ منها صالحًا للتطبيق الآن. لكن البند رقم 39 يعلو صوته ليقول: »لا يجوزُ اعتقالُ رجلٍ حرٍّ أو نفيه، أو تجريده من حقوقه أو ممتلكاته، أو وسمه بالمارق عن القانون أو حرمانه من مناصبه على أى نحو، كما لا تجوزُ ممارسةُ أىِّ لونٍ من العنف ضدَّه، ألا عبر محاكمةٍ قانونيةٍ عادلة. وأما البند رقم 12 فينصُّ على: «لا ضريبةٌ تُفرّضُ دونَ قبولٍ وموافقةٍ شعبيةٍ عامة».
هكذا فعل الإنجليزُ، قبل ثمانية قرون، فقط بإرادتهم الشعبية ووعيهم الجَمعىّ. أما نحن، فحالُنا رصدَها الشاعرُ العراقىّ، المنفىُ طبعًا، أحمد مطر، رفيقُ درب المغدور، طبعًا، ناجى العلىّ، فى قصيدةٍ عنوانُها «الرّئيسُ المؤتمن». يقول فيها: زارَ الرّئيسُ المؤتمن/ بعضَ محافظات الوَطـنْ/ وحينَ زارَ حَيِّنا/ قالَ لنا:/ هاتوا شكاواكُـم بصِـدقٍ فى العَلَـنْ/ ولا تَخافـوا أَحَـداً/ فقَـدْ مضى ذاكَ الزّمَـنْ/ فقالَ صاحِـبى حَسَـنْ:/ يا سيّـدي/ أينَ الرّغيفُ والَلّبَـنْ؟/ وأينَ تأمينُ السّكَـنْ؟/ وأيـنَ توفيرُ المِهَـنْ؟/ وأينَ توفيرُ الدّواءِ للفقيرِ بلا ثَمَـنْ؟/ يا سـيّدى/ لـمْ نَـرَ مِن ذلكَ شيئاً أبداً/ قالَ الرئيسُ فى حَـزَنْ/ أحْـرَقَ ربّـى جَسَـدى/ أَكُـلُّ هذا حاصِـلٌ فى بَلَـدى؟/ شُكراً على صِـدْقِكَ فى تنبيهِنا يا وَلَـدى/ سـوفَ ترى الخيرَ غَـداً/***/ وَبَعـْـدَ عـامٍ زارَنـا/ ومَـرّةً ثانيَـةً قالَ لنا:/ هاتـوا شكاواكُـمْ بِصـدْقٍ فى العَلَـنْ/ ولا تَخافـوا أحَـداً/ فقـد مَضى ذاكَ الزّمَـنْ/ لم يَشتكِ النّاسُ/ فقُمتُ مُعْلِنـاً:/ أينَ الرّغيفُ والَلّبَـنْ؟/ وأينَ تأمينُ السّكَـنْ؟/ وأيـنَ توفيرُ المِهَـنْ؟/ وأينَ توفيرُ الدّواءِ للفقيرِ بلا ثَمَـنْ؟/.../ وَأيـنَ صاحـبى حَسَـنْ؟