نحن الآن فى شهر مارس عام 2009، يفصلنا خمسة وثلاثون عاماً وخمسة شهور عن شهر أكتوبر 1973، الشهر والعام الذى بدأت فيهما إذاعة الشرق الأوسط إذاعة مسلسل «أرجوك لا تفهمنى بسرعة»، وهو المسلسل الإذاعى الوحيد الذى قام عبدالحليم حافظ ببطولته، وتعيد «الشرق الأوسط» إذاعته حاليا للمرة التاسعة.
نحن الآن فى شهر مارس عام 2009، يفصلنا 32 عاماً عن شهر مارس عام 1977، الشهر والعام الذى حزنت فيهما الجماهير العربية بألم خبر رحيل عبدالحليم حافظ، بعد رحلة علاج مؤلمة فى لندن. 35 عاماً أو 32 عاماً، ربما نحسبها على نحو أن أجيالاً جديدة ولدت ولم تعاصر عبدالحليم، وبالتالى لم تعاصر الضجة التى صاحبت الإعلان عن أنه سيقوم ببطولة مسلسل إذاعى، والمحصلة أنها تستمع أو تقرأ مجرد قصص طريفة من التاريخ، لكن لو حسبنا أن عبدالحليم حافظ هو رمز عابر للأجيال فى التعبير عن الحب والهجر، القرب والبعد، الأفراح والأحزان، انتصار الوطن وانكساره، سنتأكد أننا أمام تاريخ حى، تاريخ نسير فيه ونتنفسه كل يوم، لأنه يتحدث عن قيم فى التحدى والجمال، فى الإصرار والإرادة، فى الاكتساب والتعلم، فى أشياء أخرى كثيرة.
قصة ميلاد وتأليف «أرجوك لا تفهمنى بسرعة» التى كتبها الكاتب الصحفى الكبير محمود عوض، شاهدة على كل ذلك، شاهدة على نموذج العلاقة بين الفنان والكاتب، تلك العلاقة التى تحكمها كيمياء خاصة لا تخضع لقواعد جامدة، أو معادلات جافة، وإنما أرواح تتقابل فى لحظة معينة، فتتبادل لقاح العطاء، كان عبدالحليم حافظ ومحمود عوض نموذجا لهذا النوع من العلاقة، ومنه ولدت قصة المسلسل الذى يحكى عن مجموعة من الشباب فى نهاية مرحلتهم الجامعية، وبعد أن يتخرجوا يكتشفون الفرق بين الحلم والواقع، فماذا عن الخلفيات التى أدت إلى ميلاد المسلسل، وأهمها الكيمياء الخاصة التى جمعت عبدالحليم «الفنان» وعوض «الكاتب».
كان العام هو 1973، وكانت مصر تعيش على أطراف أصابعها، كانت مشدودة نحو صوت ضرورة الحرب للأخذ بالثأر من إسرائيل التى انتصرت فى 5 يونيو عام 1967، واحتلت سيناء، بهذه اللغة كانت الإذاعة مشدودة نحو التعبئة فى العداء لإسرائيل، وذلك عبر برامج متنوعة وموجهة، لكنها كانت فى نفس الوقت تمضى فى رسالتها الأخرى من إذاعة برامج ومسلسلات يتابعها الناس ليس فى مصر فقط، وإنما من المحيط إلى الخليج، كانت الإذاعة هى صاحبة التأثير الطاغى على الجماهير، فالتليفزيون لم يكن بطغيانه الحالى.
فى هذه الأجواء كان التسابق والتنافس على أشده بين الموجات الإذاعية المختلفة، وكانت الانفرادات تتم خصوصا لشهر رمضان من كل عام، كما يحدث الآن بين قنوات التليفزيون الأرضية والفضائية، واستعدادا لشهر رمضان عام 1973، اشتد الصراع بين الإذاعى الكبير وجدى الحكيم، والمخرج الإذاعى الراحل والرائد محمد علوان، حول من يفوز بمذكرات أم كلثوم وعبدالحليم حافظ، فاز وجدى بمذكرات أم كلثوم، وخسر علوان مذكرات عبدالحليم، لكنه فاز بقول عبدالحليم له، إنه سيقوم ببطولة مسلسل للإذاعة فى شهر رمضان، وحتى لا تضيع الفرصة أسرع علوان بالذهاب إلى عبدالحليم، وفى يده عقود الإذاعة.
- قال علوان: «مدير الإذاعة فوضنى فى أى مطالب لك يا عبدالحليم»
- رد عبدالحليم: «لى شرط واحد فقط، وهو أن يكتب محمود عوض قصة المسلسل».
- قال علوان: «أوافق»
لم يكتف عبدالحليم بالاتفاق الشفهى مع علوان، وإنما كتب مع توقيعه نصاً: «على أن يقوم بكتابة المسلسل الأخ محمود عوض».
لم يكن فى شرط عبدالحليم مجاملة، وإنما تقدير منه بأنه أمام موهبة كبيرة، موهبة لها حساسية مختلفة عن كل صداقات عبدالحليم من كبار الكتاب والأدباء، والتى كونها منذ بدء شهرته الفنية، وتربعه على عرش الغناء العربى مع أم كلثوم، مثل مصطفى أمين، إحسان عبد القدوس، أحمد رجب، أحمد بهاء الدين، محمد حسنين هيكل، أنيس منصور، وغيرهم.
أخذ عبدالحليم من هذه الكوكبة ثقافة وفكرا، وتواصلا مع المجتمع بتجليات أخرى، لكنه لم يغلق نفسه عليها، وإنما امتدت عيناه إلى مواهب الأجيال الجديدة، وكان محمود عوض نموذجا.
يقول محمود: «كان عبدالحليم هو الصوت الذى عشش فينا انفعالاً وتفاعلاً، وفى الإذاعة المدرسية بمدرسة طلخا الثانوية، كنا نتسابق على إدارة أغانى عبدالحليم طوال فترة «الفسحة الكبيرة»، ونتدافع إلى أفلامه السينمائية فى عرضها الأول بسينما عدن فى المنصورة، وحتى فى سنوات دراستنا الجامعية، كان أقصر الطرق أمام زميلى لكى يقوم بتحجيم زميل آخر، هو ان يقول له ساخراً: «انت فاهم نفسك مين؟ عبدالحليم حافظ يا جدع؟».
لم يدر فى خلد محمود وقتها أن ظروفا سوف تأتى فيما بعد، لكى تجمعه بعبدالحليم، وتؤدى كما يقول: «إلى تجارب إنسانية عميقة، سواء فى ليالى القاهرة أو خريف الإسكندرية أو شتاء لندن أو مطار نيويورك أو مفاجآت الرباط أو دفء الدار البيضاء، ولا كان فى بالى أيضاً ان صداقة عميقة ستربط بيننا على المستوى الشخصى، فأكون ضيفا عليه فى بيته أو هو ضيفا على فى بيتى».
لم يتحدث عوض عن كل تلك التجارب الإنسانية مبرراً: «مشكلتى دائما وحتى الآن، هى أن ذكريات عبدالحليم لم تنفصل عنى بالدرجة الكافية، لكى أكتب عنه كما أعرف وأحب، ففيما عرفته وعاشرته من عبدالحليم لم يكن هو مجرد الفنان الذى أحاطته الملايين بحبها، ولكنه كائن إنسانى متعدد التضاريس، متدفق المشاعر سريع الانفعال، وأيضا شديد التراجع عن الانفعال، وشديد الاحتراق فعلاً وانفعالاً»، لكن الدكتور هشام عيسى الطبيب الخاص لـ عبدالحليم حافظ، والذى يحمل فى خزينة أسراره الكثير عن العندليب الأسمر يسجل شهادته عن علاقة الاثنين قائلاً:
كان «حليم» يقدر الكاتب الصحفى محمود عوض، ويضعه فى مكانة خاصة منذ أن عرفه، والحق أن «حليم» تمنى أن يكون كتاب محمود الثالث عن أقطاب الفن، كتابا عن شخصه بعد أن كتب محمود كتابين، عن محمد عبد الوهاب، وأم كلثوم، ولكن «حليم»، كما يقول عيسى لم يفصح عن رغبته فى بادئ الأمر صراحة، وطالت العلاقة دون أن يبدو فى الأفق أن محمود سوف يكتب كتابا عن «حليم»، وبين الاثنين دار حوار حول ذلك يتذكره عيسى ويؤكده عوض:
- عبدالحليم: هل ترى يا محمود أننى لا أستحق أن يكون كتابك الثالث عنى؟
- محمود: ليه يا عبدالحليم انت تستحق أربعة كتب لا كتاباً واحداً، وليس هناك خطأ فى ذلك.
- عبدالحليم: طيب مادام استحق كل ده إيه اللى منعك؟.
- محمود: المسألة يا عبدالحليم تتعلق بى شخصياً، فقد كتبت هذه الكتب بناء على تكليف من دار أخبار اليوم، واختيار عبدالوهاب وأم كلثوم لى.
- أضاف محمود: أنا دخلت الصحافة لأكون أديباً، ولا أريد أن أحبس نفسى فى هذا النمط.
كان الفنان فريد الأطرش على الضفة الأخرى، يذهب إلى نفس مسعى عبدالحليم مع محمود عوض، ووصل به الأمر إلى إرسال شيك على بياض إليه لكن محمود رفض، المهم أن عبدالحليم اقتنع برأى محمود عوض، وتم إغلاق هذا الملف، وظلت العلاقة بينهما على صفائها، وهنا يظهر ذكاء عبدالحليم، فليس مهما أن تسفر العلاقة بين الفنان والكاتب عن كتاب، فلم يفعل ذلك أساطين الكلمة الذين صادقهم عبدالحليم قبل محمود عوض، وإنما يظهر الذكاء فى استثمار هذه العلاقة بالدرجة التى توسع شرايين المعرفة عنده، فى قضايا السياسة والثقافة والمجتمع، وحكى لى الموسيقار الكبير كمال الطويل، أن بيت الصحفى الكبير الراحل مصطفى أمين، كان فى كل ليلة أربعاء مكان السهرة والعشاء لعدد كبير من كبار الكتاب، ومنهم على أمين، وأحمد رجب، وأنيس منصور، وسعيد سنبل، وجليل البندارى، وأحمد بهاء الدين، وفتحى غانم، وكامل الشناوى، وفى بعض الأحيان تحضر أم كلثوم، ومحمد عبدالوهاب، وكان عبدالحليم ضيفا دائما، وكانت هذه الجلسة الأسبوعية كما قال لى كمال الطويل تشمل الحديث فى كل شىء، سياسة وأدب وثقافة وفكر.
فى مثل تلك اللقاءات كان عبدالحليم يكون وعيه، ويرتقى فى علاقاته، ولا يمنع أن يستثمرها فى اتباع بعض الوسائل التى تضمن له البقاء منفرداً على سلم الغناء، وأذكر ما قاله لى كمال الطويل عن قصة حدثت فى أحد هذه اللقاءات، دمرت علاقته بأم كلثوم، وكان عبدالحليم طرفاً غير مباشر فيها، ومحمود عوض كان طريق الإثبات فيما بعد.
قال الطويل: سافرت أنا وزوجتى إلى لبنان فى منتصف الستينيات، وبالتالى تخلفت عن جلسة «الأربعاء»، وكان بينى وبين أم كلثوم اتفاق على لحن «لسة فاكر»، وبعد عودتى فوجئت بمجدى العمروسى يقول لى، إن أم كلثوم سألت أثناء وجودهم فى بيت مصطفى أمين عنى، فأجابها العمروسى: «كمال فى بيروت وزوجته»، فردت أم كلثوم حسب رواية العمروسى: «غريبة إزاى سافر فى الوقت ده وكمان معاه زوجته«،أضاف الطويل: سمعت هذا الكلام من العمروسى، فأعطيت تنبيها فى البيت بأنه لواتصلت أم كلثوم فى أى وقت أنا غير موجود، وترتب على ذلك انقطاعى عن جلسة «الأربعاء»، والكل فى حيرة من أمره بمن فيهم مصطفى أمين عن السبب، وكانت النتيجة أن أعطت أم كلثوم لحن «لسة فاكر» إلى رياض السنباطى.
يضيف الطويل، تجمدت علاقة أم كلثوم بى نهائيا، ودخل مصطفى أمين السجن، فتجمدت الجلسة، وبعد قرار الرئيس السادات بالإفراج عنه، ذهبت إليه لتهنئته، وإذا به يفاجئنى بسؤال: «ليه يا كمال انقطعت عن جلسة الأربعاء، وليه معملتش لحن «لسة فاكر»، سرد الطويل القصة كاملة، وحسب روايته: «انتفض مصطفى أمين غاضبا.. ليه عملت كده، وليه مسألتنيش، أنت (......)، هما عملوا مؤامرة علشان يبعدوك عن أم كلثوم، لان انت كده مش هتتفرغ لـ عبدالحليم.. يا خسارة يا كمال القصة مش كده خالص، أم كلثوم سألت سؤالا عاديا والرد عليها كان عاديا، وطبعا قالوا القصة لك، وهما عارفين إنك سريع الغضب، وهتعمل اللى هتعمله».
هكذا فعل العمروسى لصالح عبدالحليم، لكن أين محمود عوض من هذه القصة؟
الإجابة هنا على لسان الطويل أيضاً، ويعترف فيها بذكاء عوض: «صدقت ما قاله لى مصطفى أمين أكثر، بعد ما علمت أن نفس اللعبة حدثت بشكل آخر بعد ذلك بسنوات، حين قال العمروسى لمحمود عوض: «إيه رأيك تنصح صديقك بليغ حمدى إن زواجه من الفنانة وردة الجزائرية سيؤثر عليه سلبيا فى التعاون مع الآخرين»، رد محمود: «يا مجدى بليغ صديقك زى ما هو صديقى.. والأفضل تقول له الكلام ده انت»، وفشلت حيلة العمروسى مع محمود عوض، أذكر أننى سألت كمال الطويل: «هل بحثوا عن بديل لمحمود عوض ليقوم بهذه المهمة؟، ضحك: «لاأعرف».
لم تكن جلسة «الأربعاء» فى بيت مصطفى أمين هى وحدها التى تساهم فى تكوين وعى عبدالحليم، ففى بيوت أخرى ومنها بيت عبدالحليم نفسه، وفى بيت محمود عوض أيضا، كان الأمر موصولاً: «بيتى وقتها كان شقة صغيرة بحى العجوزة فى القاهرة، وهى بالدور الرابع بغير أسانسير، والضيوف القادمون فى كل مرة كبار فى فنهم وبسطاء فى صحتهم، ثم إن المكان لايتسع لأكثر من عشرة مقاعد، وبقدرة قادر يتسع المكان أكثر وأكثر، البعض جالس على الأرض، فى مقدمتهم عبدالحليم والبعض يتحرك إلى الشرفة، والبعض لايجد مكانا إلا فى المطبخ.. للشاى والقهوة والبوتاجاز (مصانع حربية بخمسة وعشرين جنيها وقتها)، ومع ذلك تستمر الجلسة حتى الفجر الغناء أقلها، والحديث فى الأدب والفن والسياسة أكثرها.
هكذا كان عبدالحليم، وهكذا كان محمود عوض، الأول واصل تنمية وعيه بأساليب متعددة ومنها الجلسات الخاصة، والثانى جاء إلى القاهرة ليشق طريقه إلى الصحافة من باب الأدب، فتواصل معه بتجليات أخرى، وخطفته هموم الوطن ،ووضعت نكسة 1967 أوجاعا فى قلبه كما الآخرين، ومنهم عبدالحليم حافظ، تجلى محمود عوض فى البحث عن أسباب النكسة فجاء كتابه «ممنوع من التداول» الذى ألقى الضوء على الكيفية التى يفكر بها قادة إسرائيل، ويتذكر دكتور هشام عيسى أنه وأثناء حرب أكتوبر، كان مسئولا عن إمداد الجيش بالدم، ووقع أحد زملائه الأطباء أسيرا لدى القوات الإسرائيلية، وبعد عودته سأل دكتور هشام: «هل تعرف الكاتب محمود عوض؟ أجابه عيسى: «نعم، لماذا تسأل عنه»؟ قال له الطبيب الأسير: «الإسرائيليون وجهوا لى عدة أسئلة خلال الأسر، كان آخرها سؤال يقول: «هل يوزعون عليكم كتب محمود عوض من باب التوجيه المعنوى للقوات المصرية؟».
من نقاط التلاقى، وعيا ووجدانا، بين عبدالحليم ومحمود عوض، جاء اشتراط العندليب الأسمر، أن يكون المسلسل الجديد له فى الإذاعة من تأليف «عندليب» آخر، ولكن فى الصحافة (لقب أطلقه إحسان عبدالقدوس على محمود عوض)، فماذا حدث بعد هذا الشرط؟
يتذكر محمود عوض ما حدث، وكأنه وقع بالأمس: «حدثنى عبدالحليم عن رغبته فى الذهاب سوياً إلى الشاليه الخاص به فى العجمى بالإسكندرية، وكنا نفعل ذلك كثيرا، ومعنا فى معظم الأوقات باقى الأصدقاء مثل الموسيقار بليغ حمدى، ومجدى العمروسى، وآخرين، وصلنا وسهرنا، نتسامر ونتبادل أطراف الحديث فى قضايا كثيرة، وذهبت بعدها إلى النوم وعبدالحليم أيضا، ولما استيقظت فى اليوم التالى، لم أجد عبدالحليم فى حجرته، بحثت عنه فى الشاليه فلم أجده، ناديت عليه فلم أسمع صوتا.سأل محمود: «أين عبدالحليم؟، رد «السفرجى» فرج: «لا أعرف..الأستاذ قال لى الأستاذ محمود فى عهدتك وانصرف، ومعه السائق عبدالفتاح».
أسأل محمود عوض:«ماذا كان وقع المفاجأة عليك»؟، يجيب:«هى من مقالب عبدالحليم التى تعودت عليها وأتفهمها، ويقول: «بعد نحو أربع ساعات اتصل عبدالحليم تليفونيا، لايتمالك نفسه من الضحك: «إزيك يا محمود»،ولم يترك لى فرصة الرد ومضى قائلاً: «أنت محبوس عندك لغاية ما تكتب المسلسل».
فى سيرة عبدالحليم تصرفات من هذا النوع، منها مثلا حسب ما رواه لى كمال الطويل، بأن عبدالحليم لعب دورا رئيسيا فى منعه من السفر لإنجاز لحن أغنية صورة، وتلك قصة أخرى لو أضفناها إلى ما فعله مع محمود عوض، لفهمنا كم كان يفعل من أجل فنه، وتتوارى كل هذه التصرفات أمام النتائج المتمثلة فى لحن جميل، أوعمل فنى رائع يبقى للتاريخ، المهم إنه وكما يقول عوض: «كان عبدالحليم يحدثنى يوميا للتسلية دون السؤال عما أنجزته من الكتابة، وتلك كانت من خصائص ذكائه فهو يضع المبدع سواء كان كاتباً أو ملحناً أو شاعراً فى ظرف التحدى لإنجاز المهمة، مدركا السمات النفسية لكل واحد، ويتعامل على أساسها حتى يضمن فى النهاية الحصول على الإبداع الذى يستهدفه.
يستكمل عوض قصته: بعد أسبوعين عدت، وفى بيت عبدالحليم كان يوجد مجدى العمروسى، ألقيت أمامه أوراقى، والعنوان «أرجوك لا تفهمنى بسرعة»، انتفض العمروسى من مكانه:
- «أنا مستعد يا محمود أن أشترى منك هذا الاسم بـ«ألف جنيه ».
لم يكن المبلغ وقتئذ بسيطا ربما يعادل الآن عشرات الآلاف من الجنيهات، لكن لماذا كان هذا العرض السخى؟
كان المخرج العالمى الراحل يوسف شاهين هو الطرف الغائب، فعبدالحليم كان لديه مشروع فيلم من يوسف شاهين اسمه «وتمضى الأيام»، والاسم ليس جماهيريا بالقدر الكافى، فعرض العمروسى أن يأخذ اسم «أرجوك لاتفهمنى بسرعة» للفيلم، على أن يبحث عوض عن اسم آخر للمسلسل، يقول عوض: «رفضت العرض السخى بشدة، وتدخل عبدالحليم: «خلاص يا مجدى، بعد انتهاء رمضان نرسل لمحمود سيناريو الفيلم ويختار له اسما جديدا». بدأت استديوهات الإذاعة فى العمل، وتعاقدات من إذاعات عربية كثيرة، كان حشد النجوم المشاركين، عادل إمام، ونجلاء فتحى، وعماد حمدى، وماجدة الخطيب، وفيما كان العمل يدور على قدم وساق، بدأت حرب أكتوبر بعد عشرة أيام من إذاعة المسلسل، فتوزع الجميع إلى العمل على جبهتين، الأولى استكمال المسلسل وفاء للتعاقدات مع الإذاعات العربية، والثانية حشد الجهود للمشاركة فى حدث الحرب العظيم، عبدالحليم يسجل الأغنية تلو الأخرى »بسم الله»، و«عاش اللى قال»، وتحفته «خلى السلاح صاحى» لكمال الطويل بعد توقف طويل، والشاعر أحمد شفيق كامل، أما محمود عوض، فيعود إلى بيته يبحث عن أى قصيدة شعرية للغناء، ليمد بها الطويل أوبليغ ويتذكر: «أصبحنا نعيش بآذاننا مع إذاعة القاهرة، نقفز متعانقين مع كل بلاغ جديد، نحتضن بعضنا مع كل انتصار يتحقق، نذهب إلى الاستديو لنسجل، بينما أحدنا يذهب إلى قسم الأخبار فى الإذاعة كل ربع ساعة، نعود إلى المنزل لنطارد فى الراديو كل محطات العالم، نفترق إلى بيوتنا، لكن ننقل إلى بعضنا البعض بالتليفون كل خبر جديد، نصوم ونتسحر وكل عقولنا فى الجبهة، وفجأة اكتشفنا أننا أصبحنا نحتسى كميات من القهوة والشاى عشرين ضعف ما اعتدناه ».
رحل عبدالحليم، وبقى التاريخ، وكلما قلبنا صفحاته نقول «كانت أيام».
لمعلوماتك...
◄1929 ميلاد عبدالحليم حافظ
◄13 عدد الإذاعات التى تعاقدت على المسلسل
◄1976 آخر أغنيات عبدالحليم «قارئة الفنجان»
◄16 عدد الأفلام التى قام ببطولتها عبدالحليم
◄56 عدد ألحان كمال الطويل لـ عبدالحليم وهى الأعلى بين الملحنين
◄1977 العام الذى توفى فيه عبدالحليم يوم 27 مارس