المقدمات كانت واضحة، فأسوأ ما فى الأزمة السودانية الحالية هو أنها لم تهبط على السودان والعالم العربى فجأة فى ليلة عاصفة، كانت نذر العاصفة واضحة ومدوية منذ البداية أمام كل عين ترى ومسئول يتدبر العواقب، وفى النظم السياسية فإن أبسط وأهم مسئولياتها على الإطلاق هو المحافظة على وحدة الشعب وتكامل أراضيه، وحينما جرى انقلاب عسكرى فى السودان فى سنة 1989 قال قادته إنهم فعلوا ذلك بالضبط لحماية شعب السودان ووحدة أراضيه.
الملف السودانى هنا يطول، لكن لو حصرنا أنفسنا فقط فى أزمة إقليم دارفور فإن عناصر الأزمة بدأت من مشكلة محلية بالأساس، مشكلة نقص موارد المياه فى إقليم دارفور والصراع عليها بين الزراع والرعاة.
من تلك المشكلة المحلية، والسابق تكرارها فى إقليم دارفور، تصاعدت الأزمة مرة بعد مرة لتصل إلى ذروتها الحالية بإصدار محكمة الجنايات الدولية بلاهاى مذكرتها فى 4/3/2009 باعتقال عمر حسن البشير رئيس السودان فى تطور غير مسبوق بالمرة فى الحياة الدولية.
الصراع بين الزراع والرعاة إذن كان هو مقدمات الأزمة، والمقدمات تحولت إلى إرهاصات بتحول الصراع المحلى إلى صراع مسلح اعتبارا من سنة 2003، من تلك النقطة تحديدا تحول الصراع المحلى إلى باب تتزاحم منه وحوش الغابة الدولية للفتك بالسودان والتحكم فى مصيره، تأكد هذا أكثر وأكثر بعد الاستفراد بالنظام الحاكم فى السودان ليوقع اتفاقا مع قوى التمرد فى الجنوب بتنازلات خطيرة قدمها النظام الحاكم فى الخرطوم تتيح لجنوب السودان لأول مرة خيار الانفصال والاستقلال عبر تسوية، ذروتها قادمة فى استفتاء لهذا الغرض مقرر إجراؤه فى سنة 2011.
التنازلات فى تلك التسوية أصبحت عاملا إضافيا لإغراء متمردى دارفور بالسعى إلى اتفاق مماثل فى أقل القليل من خلال تدخلات دولية خفية وسافرة، والفصائل الثلاثة المتمردة ضد الحكومة السودانية فى دارفور تناسلت بسرعة لتصبح الآن أكثر من ثلاثين فصيلا بعضها يعمل من إسرائيل، وبعضها من فرنسا، وبعضها بدعم من أمريكا بغير أن نذكر دولة تشاد المجاورة خصوصا أن النظام الحاكم فى السودان لم ينجح فى أى وقت فى إقامة علاقات صحية مع أى من الدول التسع المجاورة له.. بما فيها مصر.
المقدمات كانت واضحة، زادت وضوحا فى يوليو 2004 حينما أصدر مجلس الأمن الدولى القرار 1556 بحظر= توريد وتصدير أى أسلحة أو معدات عسكرية إلى الميليشيات المتصارعة فى دارفور.. مع الحكومة أو ضدها، زاد الوضوح أكثر وأكثر حينما جرى فى نيويورك اجتماع حاشد لإطلاق ما سمى «حملة إنقاذ دارفور» بتحالف معلن بين عدة منظمات أبرزها «منظمة اليهود الأمريكيين للخدمة العالمية»، الحملة جمعت ملايين بعد ملايين من الدولارات للتحرك إعلاميا وسياسيا داخل أمريكا وخارجها، والإلحاح مرة بعد مرة على أن ما يجرى فى دارفور هو «تطهير عرقى» تمارسه ميليشيات «الجنجويد» بتشجيع من الحكومة.
الحملة قامت بتمويل رحلات إلى دارفور لنجوم فى الحياة العامة الأمريكية إلى معسكرات للاجئين مختارة سلفا وشهود مبرمجين مقدما ضد حكومة السودان، من بين من مولت الحملة رحلتهم إلى دارفور كان باراك أوباما مثلا، وهو فى حينها عضو فى مجلس الشيوخ الأمريكى، طموحه معلن لخوض السباق إلى البيت الأبيض فى الانتخابات التالية.
المقدمات كانت واضحة، ففى 3/10/2004 نجحت «حملة إنقاذ دارفور» فى استصدار قرار من مجلس النواب الأمريكى يعتبر أن ما يجرى فى دارفور هو «إبادة جماعية»، بعدها بخمسة أيام فقط شكل السكرتير العام للأمم المتحدة كوفى عنان وقتها لجنة للتحقيق فى انتهاكات حقوق الإنسان فى دارفور، واللجنة من خمسة أعضاء برئاسة القاضى الإيطالى أنتونيو كاسيسى، وفى 31/1/2005 أعلنت اللجنة أن تحقيقاتها تبين أن الحكومة السودانية لم تعتمد سياسة إبادة جماعية فى دارفور، لكنها حملتها هى وميليشيات «الجنجويد» والمتمردين المسئولية عن «خروقات خطيرة لحقوق الإنسان والقانون الإنسانى الدولى تشكل جرائم بموجب القانون الدولى».
المقدمات كانت واضحة، ففى 31/3/2005 أصدر مجلس الأمن الدولى قرارا يطلب فيه من المحكمة الجنائية الدولية بدء التحقيق فى أزمة دارفور، القرار ألحت عليه أمريكا، لكن التى تقدم فى الصورة كانت فرنسا. الصين واحدة من الدول الخمس دائمة العضوية فى مجلس الأمن، وبتلك الصفة لها سلطة إسقاط القرار باستخدام حق النقض /الفيتو لكنها لم تفعل بالرغم من مصالحها البترولية الضخمة فى السودان، البعض وقتها قال إن الصين اضطرت إلى ذلك مسايرة لأمريكا تجنبا لمنغصات أمريكية تفسد عليها المضى قدما فى الاستعداد للأوليمبياد المقرر إقامتها فى بكين فى أغسطس 2008، البعض الآخر يرد بأن الصين ربما رأت أن قرار الإحالة إلى محكمة الجنايات الدولية هو فقط للتحقيق فيما يجرى فى دارفور، وبالتالى فعند أى إجراء تنفيذى ستضطر المحكمة إلى العودة إلى مجلس الأمن، حيث بإمكان الصين ممارسة حق النقض إذا ناسبها ذلك.. فضلا عن أن السودان ليس عضوا فى المعاهدة التى قامت المحكمة الجنائية على أساسها، وبالتالى فلا المعاهدة ولا قرارات المحكمة ملزمة لها.
لكن الفأس وقعت فى الرأس وأصدرت المحكمة فى 4/3/2009 مذكرتها باعتقال رئيس السودان متهمة إياه بارتكاب سبع جرائم حرب وضد الإنسانية، بعدها أعلن مدعى المحكمة أنه سيطلب أيضا إضافة تهمة ثامنة ضد رئيس السودان هى مسئوليته عن ارتكاب «إبادة جماعية»، تلك الجريمة تحديدا تعنى اتساع الاتهام ليشمل السودان بكامله.. حكومة وشعبا، بعدها بأيام قام هذا المدعى بإخطار حكومة قطر بمذكرة يطلب فيها تعاونها فى اعتقال رئيس السودان فى حالة حضوره مؤتمرا مقررا للقمة العربية فى أواخر مارس، الناطق باسم وزارة الخارجية الفرنسية صرح رسميا بأن فرنسا ستدعم كل محاولة لاعتقال رئيس السودان وطائرته إذا غادر السودان جوا، فى اليوم التالى خففت فرنسا من إعلانها بالقول بأنها ستفعل ذلك فقط فى حالة مرور طائرة رئيس السودان بالأجواء الفرنسية، أما وزيرة خارجية أمريكا فأعلنت أن رئيس السودان أصبح «هاربا من العدالة».
كيف وصلنا إلى هنا؟ كيف وصلنا إلى «مفرمة» غير مسبوقة يجرى إدخال السودان إليها، وطلب اعتقال رئيس دولة ما يزال فى منصبه وهو ما لا سابقة له مطلقا فى الحياة الدولية؟ والأهم من ذلك: كيف يجرى هذا، بينما أمريكا ذات نفسها، كما الصين والهند والسودان ونصف دول العالم رفضت الانضمام أصلا إلى معاهدة روما المنشئة لمحكمة الجنايات الدولية؟ وهل أصبح مجلس الأمن -وهو جهاز سياسى بالأساس- يلفق لنفسه سلطة جديدة هى إحالة رئيس دولة إلى محكمة بغير أن تكون دولته منضمة إلى معاهدتها؟
كان أول من وضع النقاط على الحروف هو «ديسكوتو بروكمان» الرئيس المنتخب للجمعية العامة للأمم المتحدة الذى أعلن بكلمات غاضبة أن هذا الذى يجرى «يسهم فى تعميق النظرة إلى القضاء الدولى بأنه عنصرى، لأنه للمرة الثالثة يأتى شىء ما من المحكمة الجنائية الدولية وللمرة الثالثة يتعلق هذا الأمر بأفريقيا».. ثم أشار أيضا إلى أن الجمعية العامة استقبلت قبل أسبوع واحد من صدور مذكرة المحكمة وفدا ممثلا للجامعة العربية (22 دولة) وللاتحاد الأفريقى (54 دولة) يلح على التمهل وضرورة إتاحة الوقت الكافى للحوار الذى بدأ فعلا بين حكومة السودان وفصائل المتمردين فى دارفور، لكن أمريكا وفرنسا وبريطانيا رفضت، وبعدها بأسبوع أعلنت المحكمة مذكرتها باعتقال رئيس السودان فقطعت الطريق أمام تسوية الأزمة بالحوار. فى الخلاصة قال رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة إنه يعبر برأيه هذا عن غالبية الدول الأعضاء فى الجمعية العامة، لكن الغرب فى حالة من الغرور تجعله يرفض الاستماع إلى رأى الأغلبية الدولية.
كانت المقدمات واضحة، لكن ها هى الفأس وقعت فى الرأس وأصبحنا أمام نوعين من رد الفعل، هناك من يرون استخدام المادة 16 من المعاهدة المنشئة للمحكمة والتى تعطى لمجلس الأمن سلطة أن يطلب من المحكمة إرجاء أى اتهام أو ملاحقة تقررها المحكمة لمدة سنة قابلة للتجديد المفتوح، لكن حتى لو استجاب مجلس الأمن لمثل هذا الطلب فهذا يعنى التسليم بأن المحكمة الجنائية الدولية ملزمة للسودان من الآن وسيتكرر الأمر بعد سنة وفى كل مرة.
هذا يدفع آخرين إلى الإلحاح على مواجهة أصل الموضوع، والأصل هو أن محكمة الجنايات الدولية ملزمة فقط للدول الموقعة على معاهدتها، من هنا يدعو هؤلاء إلى اللجوء إلى محكمة العدل الدولية سعيا إلى قرار بعدم اختصاصها بالحالة السودانية، فضلا عن أن حصانة رؤساء الدول هو مبدأ مستقر وسابق فى القانون الدولى ولا يجوز لمحكمة من هذا النوع إجهاضه الآن.
المسألة هنا تتجاوز حتى النصوص القانونية ذاتها، المسألة هى العلاقة بين العدالة والسياسة، فالذين ينتحلون عنوان العدالة يدعون إلى مضى هذه السابقة فى الحياة الدولية إلى نهايتها أيا كانت تكلفة ذلك بشريا على الأرض، سواء لإعطاء العبرة أو لردع الآخرين، المشكلة هنا هى أنه لكى يصبح السودان عبرة لغيره يجب أولا أن يستمر كسودان، فى السودان 14 حالة توتر وإذا قدر لأزمة دارفور أن تصبح أم التوترات التى تؤدى إلى تفكيك السودان ذاته إلى شظايا نصبح كمن يقول: المهم أن تنجح العملية الجراحية حتى لو توفى المريض.
والذين وضعوا قواعد القانون الدولى المعاصر وقرروا من بينها مبادئ سيادة الدولة وحصانة رئيسها وحقها فى رفض تطفل الآخرين على شئونها الداخلية، لم يفعلوا ذلك لأن كل دولة هى فاعلة خير أو لأن رؤساء الدول ملائكة منزهون. فقط هم أدركوا أنه بغير ذلك يتحول المجتمع الدولى إلى غابة وتصبح القوة فوق الحق، كل هذا بغير أن نتحدث عن أطماع الوحوش الكاسرة دوليا فى بترول هنا ومياه هناك وموارد طبيعية هنا وهناك، أيضا بغير أن نتناول المسئولية الفادحة للنظام السودانى عن كثير مما جرى، كانت المقدمات واضحة أمامه من البداية لكنه استخف بها وتهاون فيها بما جعل السودان الآن أمام المفرمة وجعلنا جميعا مهددين بأن يصبح على بابنا: إما عراق آخر.. أو صومال جديد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة