مَن قال هذه الجُملةَ الجميلةَ: «النورُ يظهرُ عندما نريدُ أن نراه، فإن أردنا العمى، احتجبتْ عنا الأضواءُ، ولو كنّا نسكنُ الشمسَ»؟ الحقُّ أننى كنتُ أفكرُ فى جملةِ مفتتحٍ لمقالى هذا، حينما وصلتنى هذه الجملةُ ضمن رسالة من الأستاذ إيهاب الكومى يحيينى بها، ويرجو النساء العربيات أن يخرجن عن صمتهن ليؤسسن ثقافةً أنثويةً خليقةً بأن تنهضَ بالمجتمع؛ قائلا: «فكم من امرأةٍ تحملُ بين طَيّات عقلها ما يُسعدُ أجيالا قادمة، ولكنها، وبدون سبب وجيه، تؤْثِرُ التنحىَ، مُفْسِحةً الهوّةَ التناسبية بينها وبين إرثِنا الذكورى».
وعلىّ هنا أن أشكر الكومى مرتين. مرّةً لرهانه على كتابتى؛ راجيةً أن أظلَّ دائما عند حسن رِهانه، ورهان قرّاء «اليوم السابع» الراقين، ومرّةً على تلك الجُملة التى أسعفتْ مقالى. أحببتُ الجملةَ أيًّا كان قائلُها، الذى لا أعرفُه، ذاك أننى أؤمنُ بها أشدَّ الإيمان. فمثلما أؤمن أن النجاحَ قرارٌ، والإخفاقَ قرارٌ، والصِّحةَ والمرضَ قرارٌ، وحتى الشيخوخةَ والهِرَمَ ثم الموتَ، أو الشبابَ الدائمَ والخلودَ، قرارٌ، مثلما أؤمن بكل ما سبق، أؤمن كذلك أن البصرَ والعمى قرارٌ. لينين الرملى، فى مسرحية «وجهة نظر»، وضع على لسان محمد صبحى، فارسِ المسرح النبيل، جملةً طفولية بديعة، وشديدة العمق والأثر.
حين قال «عَرَفة الشَّوّاف»، الكفيفُ المبصر، لفرط حدسِه وذكائه: «لما اكتشفت إنى أعمى، قلت ده أكيد إجراء عارض مؤقت، مجرد خطأ فى الإجراءات، وبعد شوية حارجع أشوف تانى. لكن طبقات الظلام بدأت تتكاثف من حولى يوماً بعد يوم!» شىءٌ كهذا، ذاك أننى لا أذكر النصَّ بدقة. لكنه تعبير دقيق عن الحِيَل الذهنية التى يقوم بها المخُّ البشرىّ من أجل الهروب من وطأة عبء ثقيل أو كارثة مروّعة لا قِبَل له بمواجهتها.
حينما تُلمُّ بنا مُلِّمةٌ نقنعُ أنفسَنا أنها لم تحدث، أو أنها عارضةٌ وقتية، أو أنها نتاجُ خطأ فى الإجراءات سرعان ما ينصلح. فإذا ما تأكدنا أن الكارثةَ حقٌّ واقعٌ لا فرار منه، ينقسم الإنسانُ، فى ردة فعله، إلى أحد نموذجيْن. إما الاستسلامُ والقنوطُ والحَزَن، ثم الفرارُ الموغلُ نحو النفس ثم التشرنق، وربما الانتحار، أو، بالمقابل، يفعل مثلما فعل طه حسين فى الحياة والأدب، وكما فعل عرفة الشوّاف، الرمز، فوق خشبة المسرح. يقررُ الأعمى أن يرى. بل يقرّرُ أن يرى أفضلَ وأبعدَ وأعمقَ مما يرى المبصرون.
هذا النموذجُ القوىُّ النبيلُ أدرك ببساطة أن البصرَ ليس عينًا ترى، بل عقلٌ يُجبرُ النورَ أن يدخلَه، فيدخلُه. فى رواية «الخيميائى» لباولو كويللو، يقول سنتياجو: «إذا ما حَلُمَ الإنسانُ بحلمٍ، ثم صدّقَ حلمَه جدًّا، تآمرَ الكونُ كلُّه من أجل تحقيقه». وهذا حقّ. وهو ما آمن به كلُّ «طه حسين«، وكلُّ «عرفة الشوّاف»، وكلُّ «على الفاتح»، صديقنا الذى تحدثتُ عنه فى المقال السابق «مِن أين نأتى بسوزان، لكلِّ طه حسين؟» هذا «الفاتح» رفضَ الظلامَ المتكاثفَ من حوله، ففرَّ الظلامُ حاسرًا كسيفًا مُرتعبًا، ثم هو أمرَ النورَ أنْ يأتى، فأتى النورُ صاغرًا خانعًا طائعًا.
بل إنه رفض أن يُمنَحَ ما يُمنحُ عادةً لمكفوفى البصر من تعاطف ومؤازرة، مُطالِبًا، بدلا من ذلك، أن ينالَ حقَّه الطبيعىَّ كمواطنٍ مصرىّ يؤدى دورَ المواطَنة على أجمل ما يكون. يطالبُ بها حقوقًا، لا مِنحًا وعطايا. يقول فى افتتاحيته الأخيرة، عدد فبراير 2009، بمجلة «شموع مصرية«، التى يترأس تحريرها: «لا نريدُ حقوقًا من صناديق النذور والزكاة، فنحن لسنا متسولين، ولا أحدَ يمنُّ علينا بحقٍّ أوجبه عيشُنا فى هذا الوطن. نصرخُ بالحقوق، لأن حرمانَنا منها يعنى بالضبط حرمانَنا من أداء واجبنا تجاه هذا الوطن».
ثم يرفضُ، فى افتتاحيته نفسها، مقولاتٍ سخيفةً اعتاد الناسُ على قولها، من قبيل: «إخواننا المكفوفون، إخواننا المعوقون، إلخ» مثلما رفض عبارة: «إخواننا الأقباط.« ذاك أن الكلَّ أبناءُ هذا الوطن الفاتن «مصر«. مُندّدًا بمثل هذه النعوت التمييزية، لما تنطوى عليه من عنصرية مقيتة وغير مفهومة. فكل هؤلاء مصريون، ولا تجوز الإشارة إلى جماعة منهم على أنهم إخوةٌ أو أشقاءُ، فى حين يجوز ذلك حين نتكلم عن الأشقاء العرب، أو الإخوة فى الإنسانية.