فاطمة ناعوت

«وهِىَّ مَصْرْ بِتْحبنى؟»

الجمعة، 06 مارس 2009 12:08 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كتب المعمارىُّ/ محمد غزال، ردًّا على مقالى الأسبق: «مصرُ التى لا يحبها أحد«، يقول: («سُئِلَ أحدُ أطفالِ الشوارع، فى برنامج تليفزيونىّ، من قِبَل إحدى المذيعات: إنتَ بتحب مصر؟ فردَّ الطفلُ بعفوية: «وهى مصر بتحبنى؟»)

وكأن التعليقَ يقول إن الحبَّ فِعْلٌ تبادلىّ، (مش حب من طرف واحد يعنى.) والحقُّ أننى تفكرتُ طويلا فى سؤال الطفل الموغل العمق، الذى هو إجابةٌ وسؤال فى آن. وأُخِذْتُ لوهلة! طبعا الولد معه حق؛ إذْ لابد أن يُحبُّنا الوطنُ لكى نحبَّه. فالمواطَنة عَقْدٌ بين إنسانٍ وبقعة أرض، أقيمت فوقها دولة، ينتمى لها هذا الإنسان. عقدٌ متبادَلٌ وفورىّ الإبرام والحقوق والواجبات. لابد أنْ يعطينى الوطنُ حقوقىَ وأنْ أعطيه واجباته، فى اللحظة نفسِها. لا أوّلَ ولا تالىَ. كلاهما: الحقُّ والواجبُ، معا فى نفس اللحظة. أُخذتُ بالإجابة لوهلة، لكن شيئًا ما من عدم الارتياح كان يخالجنى. ثم انتبهت للثغرة فى إجابة الطفل، على عمقها. أيضا، مثل مقالى السابق «مصرُ الكثيرةُ»، لابد أن يحدّدَ الطفلُ: عن أىِّ مصرَ يتحدث؟ مصرُ الوطنُ أم مصرُ الحكومة؟ فمصرُ ليست هى حكومتَها، مثلما لا وطنَ هو حكومته. فمصرُ مثلا ليست مسئولةً عن كامب ديفيد. اسألوا، عشوائيًّا، مليونَ مصرىّ لتعرفوا أنها معاهدةٌ زائفة.

حكومةٌ ما، قررتْ أن تصُكَّ معاهدةً ما. لم يُستفتَ شعبٌ، ولم يُستَشر مواطنون، ولم تُستقرأ إرادةٌ عامة! هو قرارٌ سياسىّ، ربما يحمل بعضَ الخير لمصر التى جادتْ بدمِها النبيل فى كلِّ حروب العروبة، فيما دولٌ أخرى بخلت بالمال والنفس. نعم، من حقّ مصرَ أن تحقنَ دماءَ بنيها، الذى أُريقت غزيرةً. وربما كان وراء القرار رغبةٌ فى إعمار مصر بعد سلسالِ حروبٍ طوال، ذلك الإعمار الذى لم يتم أبدا، بل تلاه سلسالٌ من الخراب، الاقتصادىّ والأمنىّ والاجتماعىّ والوجودىّ والجمالىّ. لكنْ علينا تقييم الفكرة بالنوايا الطيبة التى أرهصت لها.

لأننا، لو مارسنا بعضَ الشرّ الماكر، سنقول إنْ هو إلا قرارٌ سياسّىٌ أشارتْ به دولةٌ عظمى تتحكم فى دول العالم، مثلما يتحكم لاعبُ شطرنج فى قطعٍ خشبية من بيادقَ وأحصنةٍ وأفيالٍ وسلاطينَ وملوك! قد يكون، لكن الحتمىَّ أن قرارات الحكومة دائما لا دخلَ للشعب فيها، كما لا دخل لمصرَ فيها. لذلك لا أحدَ فى العالم بوسعه أن ينتقدَ «مصرَ الوطنَ» أو «مصرَ المصريين» على تلك المعاهدة الكوميدية، بل تُسْألُ فى ذلك حكوماتُ مصر.

لذلك سأردُّ على هذا الطفل، وعلى زميل المهنة العزيز، محمد غزال، بأن أقول لهما، بالدارجة المصرية الصريحة: «أيوا مصر بتحبك، وبتحبك أوى كمان!» صحيحٌ أن الحكومةَ لا تحبُّك، ولا تحبنى، ولا تحبُّ مصرَ ربما، لكن مصرَ «الوطن» بكلّ تأكيد تحبُّنا جميعا. مصرُ لم تُخرّبِ التعليمَ كى نصيرَ أنصافَ جُهلاء أنصافَ أميّين، بل خربته الحكومةُ. مصرُ لم تعتقلِ المثقفين منذ 1959 وحتى الآن، بل اعتقلتهم حكوماتُ مصرَ. مصرُ لم تُسَرْطنْ ماءَ النيل لكى نموتَ مشوّهين، بل سرطنته الحكومةُ. مصرُ لم تذبحِ الأشجارَ، ولم تقوّضِ الهيكلَ المُجتمعىّ؛ فصارَ الثرىُّ الجاهلُ سيدًا والمثقفُ الفقيرُ عبدًا، مصرُ لم تستوردْ أطعمةً وأدويةً منتهيةَ الصلاحية، ولم تعطِ الزمامَ لأولى النفوذ والسلطان، بدل أن يكون الزمامُ فى يد الطليعةِ والعلماء، مصرُ لم تسرقْ خيراتِها وثرواتِها لتوزّعها على أهلها وأصحابها وجيرانها وأنسابها وتحرمَك وتحرمَنى منها. مصرُ لم تُبِح احتكار ثروات الأرض من حديد وبترول بل وآثار لبعض نفرٍ من أقربائها، ولم تسرّبْ الغازَ للعدو وتحرمْ منه بنيها، مصرُ لم تزوّر الانتخاباتِ، ولم تشجّعْ تفريغَ العقول من كلِّ وعى وفكرٍ ببثها فضائياتٍ هزيلةً خاويةً لا تليقُ باسم مصر. مصرُ لم تقمع رأيا، ولم تعتقلْ صاحبَ رأى، ولم تلفق تُهما لمواطن صدّق مادةً فى الدستور تنصُّ على تداول السلطة، وتبشّرُ بانتخاباتٍ حقيقية شفافة نقية، مثلما يحدث لدى السيدة الأولى أمريكا، وصدّق أن مصرَ لا تمانعُ بتشكيل أحزاب مستقلة، فقضى سنواتٍ فى المعتقل حتى أذنت له قوة ميتافيزيقية تقبع فى طرف الكرة الأرضية أن يُفكَّ أسرُه. مصرُ لم تفعل شيئا من هذا، بل فعله رجالٌ قبضوا على زمامها بليلٍ، دون أن يكون لنا رأىٌ فى ذلك أو قرار، ودون أن يكونَ لنا فى البيعة المنهوبة، وهى بعضُ حقِّنا، ناقةٌ ولا جمل.
نعم، وألفُ نعمٍ، مصرُ، مصرُ الفاتنةُ، تحبُّنا جميعا. لكن مَن منّا يحبُّ مصرَ؟









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة