هناك دائما الأصلى والمزيف، والذهب والنحاس والفضة والقصدير، والماس والزجاج، ولكل واحد منهم مكانته وقيمته، ولكل أهله الذين يتعاطونه ويستمتعون به.. ومن المؤكد أن الذين يحبون كل ما هو أصلى لن يقبلوا بأى حال من الأحوال المزيف والرخيص لأن الرخص والزيف ليس فيه خير أو جمال وهو أيضا محروم من النور.. نور الذات النابع من الجوهر ونور المحيط الذى يمثل المرآة التى يرى فيها نفسه.
عرف عن المتصوفة أنهم يغضون طرف عيون قلوبهم عما يطمس أنوارها الممنوحة لها من ربها لإخلاصها فى ذكرها وفى أفعالها، أما عين الوجه فإنها تصوم عن المعاصى بكل أشكاله وبالتالى يصبح الظاهر منيراً والباطن كذلك.
من أكبر الأشياء السالبة للأنوار هو التعلق بالدنيا بكل السبل والطرق والوسائل وأيضا الرغبة فى تحريك الأمور فى اتجاهات معينة بطريقة تحقق السيطرة والهيمنة على الآخرين أو على مواردهم، ومن الأمور الساحقة والماحقة للأنوار ، امتلاء القلب بالحقد والغيرة المرضية والسعى إلى مقاعد الحكم لنيل الشهرة والمال.
المتصوف يزرع الدنيا ولا يأخذ منها إلا ما يسد رمقه ولا يغرف منها ويضع فى جيوبه وبطنه غير عابئ بالآخرين من الفقراء والمساكين والمحتاجين، وسيدى الإمام الليث بن سعد الفقيه العالم الزاهد رضى الله عنه كان من أغنى أغنياء مصر، ولكنه كان لا يخرج زكاة ماله وذلك لأنه كان لا يمر حول كامل على أمواله وهى فى حوزته وتحت يده، لأنه كان يخرجها كلها لله لمساعدة المحتاجين والمساكين وحتى أبناء السبيل، إن الحقيقة الثابتة هى أن الجزء الأكبر من السعادة يكمن فى العطاء بكل صوره للآخرين، ولقد تفوق سيدنا أبو بكر على غيره بالسخاء، وهى صفة أساسية فى رسولنا العظيم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذى كان أجود من الريح المرسلة على مدار حياته كلها، وكذلك كان سيدنا على رضى الله عنه، أما حب الظهور والبحث عن الشهرة فهو آفة تأتى بالخسران المبين فى الآخرة عندما يقول الله العزيز القدير للعبد لقد فعلت ما فعلت بحثا عن الشهرة، ولم تفعلها حبا فى، ولقد نلت فى الدنيا ما أردت وليس لك هنا شىء.. ولقد التقى سيدى جابر الرحبى رضى الله عنه بسبعة من الأبدال وسألهم: «علمونى شيئا ؟» فقالوا له: «لا تحب أن تعرف ولا تحب أن يعرف أنك ممن لا يحب أن يعرف» لأن النفس ميالة إلى الظهور والتعالى على عباد الله والسخرية من الغير وتزكية النفس «فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى»، فالمتصوف قد يكون من عباد الله أصحاب المكانة العالية، ولكنه يتخفى ويختفى عن أعين الناس وخاصة هؤلاء الذين قد يمتدحونه فيكونوا السبب فى تسلل الغرور إلى نفسه فيسقط كما سقط الملعون إبليس ويخسر الدنيا والآخرة. ومن بين أخطاء المتصوفة المعاصرين هى أنهم وافقوا على أن يكون خليفة الشيخ ووارثه بعد مماته هو ابنه.. هذا ليس بالضرورة صحيح.. فقد يكون الابن صالحا ولكنه لم يصل إلى درجة الولاية التى تضعه على رأس الطريقة.. ولقد فعل ذلك القطب النورانى سيدى أبو الحسن الشاذلى رضى الله عنه عندما أوصى قبل وفاته أن الخليفة من بعده هو أبوالعباس المرسى رضى الله عنه ولم يوص بأن تكون الخلافة لابنه لعلمه بالأنسب والأقدر، والسلف الصالح من المتصوفة كانوا أصحاب قلوب عاشقة لرب العزة ولرسوله الكريم سيدنا محمد صلى الله ليه وسلم قتلوا نفوسهم وعلوا على رغباتهم وحرقوا شيطانهم بالذكر الصادق والمستمر بالقلب واللسان والبدن «ألا بذكر الله تطمئن القلوب»، فثبت واطمأن وأضاء معهم كل ما حولهم، قيل لسيدى ابن السماك رضى الله عنه: «ما أطيب الطيبات؟» قال: «ترك الشهوات»، وأجمع الجميع أن الذى يحكم أربعة أشياء أنقذ نفسه: «العين واللسان والهوى والقلب».