إذا أردنا أن نفهم لماذا تتساقط صناعة الغزل والنسيج فى مصر بعد سبعين سنة من التطور والازدهار.. ولماذا يهدد شبح العجز صناعة الألومنيوم فى مصر بعد ألف مليون جنيه أرباحا وضرائب تسددها سنويا للحكومة شركة واحدة.. أو لماذا تصفى حكومتنا الرشيدة أقدم وأكبر صناعة للسيارات الوطنية بينما نفس الحكومة المفلسة تتحمس فجأة لتقديم الدعم السافر للسيارات المستوردة.. فعلينا أن نذهب أولا إلى لندن ومن قبلها إلى واشنطن.
فى لندن، وسبع ساعات فى اليوم الثانى من هذا الشهر، اجتمع قادة «مجموعة العشرين».. التى هى خليط من الدول الغنية والدول الصاعدة اقتصاديا. وبالمناسبة: السعودية دعيت لتصبح عضوا، ليس تمثيلا للعالم العربى كما قال بعض أعضاء ما أسميه «مدرسة الجهل النشيط» فى إعلامنا، ولكن تمثيلا لدول البترول ذات الفوائض المالية الضخمة التى تسيل لعاب المفلسين للمساعدة فى إنقاذهم من الأزمة.. لكن هذا موضوع آخر.
بعد اجتماع لندن كان أول تعليق توقفت عنده ما قاله الرئيس الفرنسى نيكولا ساركوزى أنه «من اليوم انتهى عصر الرأسمالية الأنجلو ساكسونية ولن يكون لسرية البنوك مكان».
أما رئيس وزراء بريطانيا فقال: «من اليوم لم يعد لتوافق واشنطن مكان فى الاقتصاد العالمى». تعبير «توافق واشنطن».. كما الشفرة.. يقصد به «روشتة الإصلاح الاقتصادى» التى استمرت أمريكا تروج لها منذ 15 سنة على الأقل وتفرضها على دول العالم الثالث تحديدا، روشتة خلاصتها: فلتبتعد الدولة عن الاقتصاد.. فلتسرع ببيع قطاعها العام ولو بسعر التراب تحت عنوان «الخصخصة».. ثم لتفتح الدولة أسواقها أمام الاستيراد حتى لو تضاعفت ديونها.. ثم على الدولة تحرير دخول وخروج الأموال بلا رقيب ولا حسيب. وبعد أن كان البنك الدولى وصندوق النقد الدولى هما وكيلا أمريكا المباشران لفرض تلك الروشتة على الآخرين.. أصبحت أمريكا فى اجتماع لندن هى التى تدعو دول العالم إلى توفير المزيد من الأموال للبنك والصندوق بلا شروط إذا تيسر أو بشروط إذا أصر الدافعون.. وهم فى لندن أصروا على الشروط.
فى اجتماع لندن انقلب أغنياء العالم على »العولمة المنفلتة« التى كانوا هم الذين يروجون لها، انقلاب اضطروا إليه.. فقط لأنهم فى أزمة، وإحدى صحف لندن جعلت عنوانها الرئيسى هو «خمس ساعات لإنقاذ العالم» لكن الأقرب إلى الدقة هو «خمس ساعات لإنقاذ العالم من النموذج الأمريكى للرأسمالية»، فالمشكلة بدأت أصلا من أزمة مالية فى أمريكا سرعان ما تحولت إلى أزمة اقتصادية لها ضحايا باتساع العالم.
ثانيا: فى النموذج الأمريكى من الرأسمالية كانت الأزمات معتادة ومتكررة كل بضع سنوات، وفى كل مرة كان الاقتصاد الأمريكى يتعافى بإسعافات أولية أو تدابير احترازية، أما الذى سمح لأمريكا بأن تصدر أزمتها فى هذه المرة إلى العالم كله فهو عولمة الاقتصاد العالمى التى ألحت بها أمريكا ومن خلفها صندوق النقد الدولى والبنك الدولى، وفى اللحظة الراهنة نلاحظ أن الدول الأكثر تضررا من الأزمة هى تحديدا نفس الدول الأكثر اندماجا فى السوق العالمية بفعل العولمة المنفلتة.. والعكس بالعكس، دول أمريكا اللاتينية قبل الصين هى الأقل تضررا لأنها حصنت نفسها مبكرا ضد االفيروس الأمريكى وروشتة صندوق النقد الدولى والبنك الدولى، حتى إن بعضها قطع علاقته بالصندوق وفى العام الماضى أقاموا لأنفسهم «بنك الجنوب» ليقوم بتمويل المشروعات الإنتاجية الكبرى اللازمة لشعوبهم بعيدا عن تلصص ورقابة أصحاب «توافق واشنطن».
ثالثا: عندما تفجرت ذروة الأزمة المالية الأمريكية فى منتصف سبتمبر الماضى وهى كانت تتراكم من قبلها بشهور خرج السياسيون الأوربيون ليعلنوا واحدا بعد الآخر أن اقتصاد دولهم محصن ضد المرض الأمريكى. الرئيس الفرنسى نيكولا ساركوزى مثلا أعلن أن البنوك الفرنسية لن تتأثر، ثم اكتشف أنها تأثرت، هذا جعل ساركوزى يلقى بخطاب غاضب قال فيه «إن حالة الاضطراب الاقتصادى التى أثارتها أزمة أسواق المال الأمريكية وضعت نهاية لاقتصاد السوق الحرة»، حيث إن «نظام العولمة يقترب من نهايته مع أفول رأسمالية فرضت منطقها على الاقتصاد بأسره وأسهمت فى انحراف مساره». بعدها أضاف «إن فكرة القوة المطلقة للأسواق ومنع تقييدها بأى قواعد أو بأى تدخل سياسى كانت فكرة مجنونة.. وفكرة أن السوق دائما على حق كانت أيضا فكرة مجنونة».
كذلك لم تتردد أنجيلا ميركل مستشارة ألمانيا فى القول علنا بأن أمريكا تتحمل المسئولية الأساسية عن هذه الأزمة، وبالتالى فعليها المسئولية الأكبر فى التغلب عليها من خلال إجراءات أقوى تعبر عمليا عن استنباط الدروس الصحيحة من الأزمة والتعاون مع المجتمع الدولى لوضع «قواعد دولية لتحقيق المزيد من الشفافية والتنظيم بشكل أفضل».
أما على مستوى العالم الثالث فإن لويس لولا دا سيلفا رئيس البرازيل كان الأعلى غضبا فى رفضه أن تكون دول الأسواق البازغة هى ضحايا «كازينو القمار» المالى الذى صنعته أمريكا وصدرته إلى العالم.
رابعا: قبل أيام خرج ديفيد ميليباند وزير خارجية بريطانيا ليقول إن هذه الأزمة المالية أصبحت بالنسبة للقطاع المالى معادلة لأحداث 11/9/2001 التى مست فى حينها الأمن القومى الأمريكى فى الصميم لكنها فى هذه المرة على مستوى العالم، قبله كان الملياردير الأمريكى وارين بافيت هو الذى قال إن ما أصاب سوق المال الأمريكية ليس أقل من «بيرل هاربور الاقتصادية» فى إشارة إلى انهيار الدفاعات الأمريكية أمام الهجوم الجوى اليابانى الكاسح فى ديسمبر 1941.
لكن المشكلة التى كشفت عنها التطورات التالية أصبحت هى عدم قدرة أمريكا بمفردها على الخروج من الأزمة فى هذه المرة، أزمة تجاوزت القطاع المالى لكى تشمل الاقتصاد بمجموعه، وتجاوزت الاقتصاد الأمريكى كله لكى توجع الاقتصاد العالمى فى الصميم. هذا بدوره فرض توجها أمريكيا لطلب مساعدة ومساهمات دول أخرى فى مقدمتها الصين والهند والبرازيل وباقى الاقتصادات البازغة وقبلها الدول ذات الصناديق السيادية.. أمريكا انزلقت إلى الأزمة لأنها تقترض لتستهلك.. وأصبحت فى حاجة إلى دول ادخرت لتنتج.
خامسا: مع هذا التغيير الملموس فى توازن القوى العالمى اقتصاديا على هذا النحو لم تمانع الدول ذات الفوائض المدخرة على المساعدة، لكن هذا بالطبع لن يكون مجانا، فلم تعد الصين مثلا مستعدة للاستمرار فى الرضا بأن تكون حصتها التصويتية فى صندوق النقد الدولى أقل من حصة دولة بحجم بلجيكا، المشكلة كانت حتى مؤتمر لندن هى أن أمريكا لا تريد تغيير قواعد اللعبة، فهى بادرت مثلا إلى رفض الدعوة المتكررة من الصين وروسيا والبرازيل بالسعى إلى عملة احتياط جديدة يكون الدولار الأمريكى أحد مكوناتها بدلا من انفراده وهيمنته الكاسحة المستمرة منذ سنة 1945، وقد دعا بعض البارزين الأمريكيين زبجنيو بريجنسكى المستشار الأسبق للأمن القومى مثلا إلى أن تركز أمريكا على التنسيق مع الصين بدلا من مجموعة العشرين، لكن هذا لم يعد كافيا من ناحية، كما أن اللاعبين الأساسيين الآخرين لن يقبلوا ذلك بدورهم.
ثم نأتى إلى وسائل العلاج ذاتها، أمريكا كانت تريد من باقى مجموعة العشرين مسايرتها بخطط مالية تحفيزية للاقتصاد المحلى داخل بلادهم وهم يرون أن مثل هذا التوجه سيكون هو الطريق إلى الجحيم كما عبر رئيس وزراء تشيكيا مثلا، أمريكا تريد أيضا من دول بحجم الصين واليابان والصناديق السيادية فى دول البترول أساسا أن توفر لصندوق النقد الدولى والبنك الدولى أموالا ضخمة إضافية، لكن تلك الدول ترى أن المساهمة بأموال ضخمة إضافية على هذا النحو سيؤدى إلى المزيد من نفس الاضطراب ما لم يتم أولا تغيير قواعد اللعبة الاقتصادية عالميا من ناحية، وكذلك وضع قواعد أكثر صرامة للرقابة على المؤسسات المالية الدولية وصناديق التحوط والمضاربات المالية التى هى ابتكار أمريكى من ناحية أخرى.
وقبل لندن كان الاجتماع الأخير لمجموعة العشرين فى منتصف نوفمبر الماضى بواشنطن، فى ظل إدارة أمريكية غاربة وبينما حث اجتماع واشنطن الدول الأعضاء على رفض أى إجراءات حمائية للإنتاج الوطنى مثلا فإن الذى جرى من وقتها هو العكس، فكما يقرر البنك الدولى فإنه منذ نوفمبر الماضى قامت 17 دولة من مجموعة العشرين بفرض قيود على وارداتها، بعضها برفع الرسوم الجمركية كما فعلت روسيا بالنسبة للسيارات المستعملة المستوردة، والهند على واردات الصلب، والصين على لحوم الخنزير والبراندى الإيطالى، وتسعون بالمائة من مجموع الدعم العالمى لصناعة السيارات كان مخصصا لإنقاذ شركات السيارات فى الدول الغنية، وكل هذا بغير الإشارة إلى بند «اشتر السلع الأمريكية» الذى اشترطه الكونجرس لتمرير صفقات التحفيز المالى التى قررتها إدارة باراك أوباما.
التقاطعات عديدة ومستمرة سواء قبل اجتماع لندن أو بعده، لكن بالنسبة لنا فى العالم الثالث تظل مسئوليتنا هى الخروج بالدروس الصحيحة مما جرى، فمنذ سبتمبر الماضى على الأقل، وبمجرد أن واجهت أمريكا تلك الأزمة، قادت اتجاها لكى تحلل لنفسها نفس المحرمات التى كانت تلح بها على كل الدول النامية، أمريكا الآن تضاعف من تدخل الدولة فى الاقتصاد، وتؤمم البنوك والمؤسسات المالية إذا لزم الأمر حتى لو بتسميات أكثر لطفا، وتفرض مع غيرها إجراءات لحماية الإنتاج الوطنى، وهى تزيد من الإنفاق الحكومى حتى لو أدى هذا إلى زيادة العجز بالميزانية، وتدعم الصادرات عند الضرورة وتقلل من الواردات، وبينما تطالب الآخرين بفتح أسواقهم أمام منتجاتها فإنها تضع الحواجز غير المعلنة أمام منتجات الآخرين، أمريكا أيضا، ومعها الدول الغنية من بين مجموعة العشرين، فى الحالات التى تمتنع فيها عن رفع الرسوم الجمركية على سلع بعينها حتى لا تتعرض إلى إجراءات مضادة من الآخرين.. ابتكرت هى والآخرون 57 نوعا مستترا من أشكال حماية إنتاجها الوطنى من المنافسة الأجنبية، أمريكا مثلا، لحماية منتجى عسل النحل لديها من المنافسة الأجنبية، تبرر منع استيراد عسل النحل بأنه من دواعى الأمن القومى!
ثم الدرس الأهم: فالذين نجوا حتى الآن من عواقب الأزمة هم أنفسهم الذين اعتمدوا على الإنتاج قبل الاستيراد.. والادخار بدلا من الاقتراض.. ورفضوا كل الإلحاحات المسمومة من صندوق النقد الدولى والبنك الدولى بالتوجه بسرعة إلى الخصخصة وبيع القطاع العام وبتحرير مؤسسات المال من الضوابط والقيود. هؤلاء الناجون يمتدون من الصين إلى أمريكا اللاتينية، وهم أيضا من تمد أمريكا يديها إليهم بعد طول استعلاء.
والاجتماع الأخير لمجموعة الدول العشرين بلندن تمخض عن إجراءات هى مزيج من زيادة الإنفاق الحكومى بضخ خمسة تريليونات دولار فى الأسواق حتى نهاية العام القادم وإجراءات إضافية لتشديد الرقابة على البنوك والتصدى لملاذات التهرب الضريبى فى دول محددة.
هل هذا سيكفى لإعادة الاستقرار عالميا؟ وسؤال آخر: إذا كان أغنياء العالم يتحركون لإنقاذ اقتصادهم.. فهل يأخذ فقراء العالم الموعظة ويتحركون دفاعا عن مصالح شعوبهم؟ وسؤال ثالث: هل يتوب عندنا دراويش الخصخصة والعولمة المنفلتة بعد طول مكابرة؟
سوف نرى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة