بغداد عروس عروبتكم
فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها
ووقفتم تسترقون السمع وراء الأبواب
لصرخات بكارتها
وسحبتم كل خناجركم وتنافحتم شرفاً
وصرختم فيها أن تسكت صوناً للعرض
لقد توقف التاريخ حين سقطت بغداد على يد التتار سنة 656هـ، وأصبح المؤرخون فى الشرق والغرب يؤرخون قبل سقوط بغداد وبعد سقوط بغداد، وسقطت بغداد وسقطت معها الخلافة الإسلامية لأول مرة منذ وفاة الرسول صلى الله علية و سلم، وظل المسلمون بدون خلافة لمدة تصل إلى ثلاث سنوات ونصف كما يذكر السيوطى فى (تاريخ الخلفاء)، وهكذا كان سقوط مدينة السلام حدثا جللا روع الأمة الإسلامية من أولها إلى آخرها.
واليوم تمر ست سنوات على السقوط الثانى لبغداد على أيدى تتار العصر الحديث (أمريكا)، هذا اليوم المشؤوم يوم سقوط بغداد مسجلة هزيمة جديدة للعرب فى العصر الحديث، بعد سقوط القدس، وما يضاعف من وطأة هذه الهزيمة الشنيعة أنها تمت بموافقة الكثير من الدول الإقليمية ما كان للاحتلال الأمريكى والبريطانى أن يصل إلى بغداد من دونها، فهى التى جعلت الطريق إلى بغداد ممكناً.
سقطت بغداد فجأة ومن دون مُقَدّمَات، واختفت القيادات البعثية فى العراق، وذاب الجنود فى الناس، واختلفت الآراء حول هذا السقوط المفاجئ والمُحَيِّر، لأن الناس كانوا يتوقعون مُقاومة طويلة وشرسة تمتد إلى أشهر قبل أن يستولى الأمريكان والبريطانيون على بغداد، من المؤكد أنها قصة طويلة وحزينة والأيام تكشف لنا كل يوم أشياء غريبة وأسرار عجيبة لهذا السقوط .
إن يوم التاسع من إبريل 2003 سيظل رمزاً بشعاً لسقوط التضامن العربي، وليس لسقوط بغداد، كما سيبقى رمزاً بشعاً للتناحر العربى ولما تؤدى إليه الاختلافات السياسية بين الأنظمة من كوارث، لا تكون ضحيتها الحكومات أو الأنظمة وإنما الأوطان بكل ما يمثله سقوطها من انكسار ينعكس عليها جميعاً لأنها لم تقدر العواقب، ولم تدرس أبعاد ما سينتج عن سقوط نظام عربى أياً كانت مواقفه وأخطاؤه. ومن هنا فإن سقوط بغداد المباشر لم يكن سوى سقوط غير مباشر لكل العواصم العربية من دون استثناء، وذلك ما أوضحته الصحافة العالمية فى حينه، وخرجت به انطباعات المتابعين السياسيين يومئذ وحتى اليوم.
إن سقوط بغداد العربية، بغداد بكل ما مثلته عبر التاريخ من رمز عربى وحضارة عربية يفضح هذاالتواطأ فى الداخل والخارج مع الاحتلال، وكان العامل الأكبر فى سقوط عاصمة الخلافة العربية الإسلامية بكل ما ترمز إليه من أمجاد تاريخية وحضارية، وبكل ما يؤشر إليه سقوطها من انكسار عربى سوف يتلاحق ويخلق من التداعيات ما لم يكن فى الحسبان.
ولولا هذا التواطؤ العربى لما تمكنت قوة على الأرض من دخول بغداد واستباحتها وتحقيق كل ما حلمت به الصهيونية وتمناه قادتها ومن يتعاطف معهم فى العالم.
وها هو اليوم التاسع من إبريل يعود، فلا العراق هو العراق، ولا العرب هم العرب، ولا دول الجوار هى دول الجوار، الوطن العربى بعد سقوط بغداد ليس هو الوطن العربى الذى قام قبله. إنه الوطن الذى يشهد ولادة إيران الكبرى وطغيان أمريكا المتعجرفة وضياع العرب الذين اكتشف معظم أنظمتهم أن إسرائيل العدوة التاريخية لهم ولقوميتهم ودينهم لم تكن كذلك، بدأوا يعترفون ضمناً أنهم كانوا مخطئين، وأن إسرائيل دولة جديرة بالاعتراف بها لو أرجعت لهم بعض حقوقهم التى سلبتها منهم طيلة خمسين عاما أو يزيد!!
وها هو هوشيار زيبارى (واحد من الذين جاءوا على ظهر الدبابات الأمريكية) يقول فى ذكرى سقوط بغداد "إن يوم التاسع من إبريل كان يوماً عظيماً يحتفل به الشعب العراقي، لأنه يوم سقوط النظام الذى قمع شعبه لثلاثين سنة ماضية"، طبعاً السيد زيبارى يصرح بكلامه هذا فى نفس اليوم الذى ينظم فيه مناصرو مقتدى الصدر تظاهرة ضد الاحتلال فى الجنوب، فى حين يُفرض حظر التجول فى المدينة التى سقطت فى هذا اليوم عام 2003.
لا أدرى إذا كان هذا وأمثاله من المتأمركين الجدد قد قرأوا ما نقلته صحيفة الإندبدنت البريطانية عن احدى المؤسسات الإحصائية بأن 90% من الضحايا المدنيين الذين سقطوا فى العراق كان على يد الجيوش الأجنبية الموجودة على الأرض العراقية، أما علموا أن الاحتلال الأمريكى للعراق تحت ذريعة الدفاع عن النفس لارتباطه بالقاعدة وأسلحة الدمار الشامل العراقية قد سقطت بعد أن أكدت الوثائق بأن صدام لم يكن له علاقة بالقاعدة لا من قريب ولا من بعيد، وأن ما كان يُعرض من صور لمنشآت أسلحة الدمار الشامل العراقية لم تكن سوى خدعة اعترف بها وزير الخارجية الأمريكى السابق كولن بول!
فهل حالة التردى التى وصل إليها الوعى العربى السياسى تسمح له باستمرار تصديق ما يروجه الأمريكان، فمن يتابع تعليقات وتصريحات وانطباعات الساسة والمهتمين بالشأن العربى عموماً والعراقى خصوصاً يُصاب بالذهول من التناقض فى النتائج والتقييم بين بغداد قبل التاسع من إبريل 2003 وبغداد اليوم!
ولم أتعجب حين سمعت جورج بوش يصف العراق اليوم "بأنها أفضل حالاً مما كانت عليه أيام صدام، وأن العالم اليوم أكثر أمناً"، ولكن هل نصدق مناصرى الحكومة العراقية بأن العراق اليوم يعيش انفتاحاً سياسياً حيث الأحزاب تعمل بحرية، مفتخرين بأن العراق الدولة الوحيدة التى ليس فيها وزارة للإعلام التى من مهامها مراقبة الصحافة..
إنه زمن التناقضات، بل زمن الاستخفاف العربى، وزمن الاستخفاف بهم. فالولايات المتحدة الأمريكية التى تُعدّ المسؤولة اليوم ـ قانونياً ودولياً وأخلاقياً ـ عن مأساة العراق بكل أبعادها، حين حلّت الجيش العراقي، وأمرت باجتثاث البعث قبل صدور قانون ينظم الأحزاب، وفتحت الأبواب للطائفيين واللصوص والتكفيريين والقتلة عبر الحدود، وسلمت العراق للمخابرات ـ ليست الإيرانية فحسب ـ بل من كل دول المنطقة، وبشكل خاص الموساد الإسرائيلي، وسلمت المليارات لحكومات انتقالية شكلت على أسس النسب الطائفية، وراحت تغض الطرف عن الانتهاكات البشعة لقوات وزارة الداخلية تحت قيادة بيان جبر، وهى نفسها التى تحمّل جيران العراق المسئولية عن إخفاق العملية السياسية هناك فتقرير بيكر-هاملتون ألقى باللوم على العراق وجيرانه، إذ يقول: "جيران العراق لا يعملون بالقدر الكافى لتمكين العراق من تحقيق استقراره، وبعضهم يقوّض الاستقرار"!!
نعم لا يزال فى عالمنا العربى أناس يناطحون السحاب بعنادهم محاولين لى عنق الحقائق؛ لأنها لا تتفق مع أهوائهم ورغباتهم، والأمثلة أكبر من أن تحصى، ومثلما كانت فضيحة المرسيدس البيضاء أيام صدام مع الصحفين العرب، ومنهم مصريون، سوف تكشف الأيام لنا أن هناك أشياء أكبر من السيارات يأخذونها مقابل مساندة الاحتلال وتبديل الحقائق، فهم أمريكان أكثر من الأمريكان.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة