بعد ثلاثة أيام من وصولك، ستبدأ المدينة فى سؤالك عن اسمك وبلدك والغرض من الزيارة.. سعيد إن تذكرت، ولكنك ستكون فقدت الرغبة فى الكلام.. ولسوف تسأل نفسك بضيق حقيقى: ما فى هذه المدينة يطفئ الروح ويؤجج الرغبة؟ ولن تجد فى هذه المدينة سوى المزيد من صمتها والمزيد من جنونك.
بهذه الكلمات يستهل عزت القمحاوى روايته البديعة «مدينة اللذة» التى صدرت طبعتها الثانية مؤخراً عن دار العين، ويتناول فيها بطريقة إبداعية مرهفة مشكلة الحب والجنس وتكمن المفارقة فى أن الروايه خالية من الشخصيات فقط هناك مدينة أسطورية، تلعب دور البطولة كاملة، أشخاصها مجرد رواة، يعيشون بها ولها وفيها، هى أمهم وأبوهم وأبناؤهم وتاريخهم ومستقبلهم، وهم عابرون، وزائروها عابرون، ويمضى «القمحاوى» فى استعراض تاريخ المدينة المتضارب وأماكنها المبهرة المحيرة، عن طريق راو «غريب» يتخذ من «الدهشة» وسيلة لمعرفة تفاصيل تلك المدينة المسحورة التى تعلى من شأن اللذة وفنونها باعتبارها يقينا وحيدا، فكل ما فى المدينة مشكوك فى أمره، تاريخ بنائها وسببه، ومالكوها، وأربابها، وسكانها أيضاً، وتبقى اللذة وحدها هى اليقين الثابت الذى لا يزعزعه شك، ولا تقدر على مقاومته الحوادث.
يتكئ القمحاوى على لغته الشعرية الصافية ليصف ما فى هذه المدينة من معالم وأماكن استعاض بها عن الشخصيات، ولكل مكان تاريخ طويل من الأحداث والأساطير المحبوكة والمتضاربة فى آن، ففى وصفه للميدان الرئيسى للمدينة يقول: «ولسوف يفاجئك فى قلبها ميدان يقاوم صمت الحياة بصخب الموت» ليورط القارئ بذكاء فى الدخول إلى مدينته التى كتب على ساكنيها إحدى النهايتين: الصمت، أو الجنون.
وعبر فصول قصيرة يصف الراوى هذه المدينة وما بها من حكايات، تتمحور كلها حول الشهوة الإنسانية، بلا إدانة أو استنكار، ولم يأت الكلام عن الحب فى الرواية إلا فى فصل صغير للغاية، يذكر فيه الراوى أن عراف المدينة جاء ذات يوم إلى الملك وتنبأ له بأن ملكه سيزول على يد رجل وامرأة عرفا متعة الحب وفضلاها عن لذة الجنس، يقين المدينة الوحيد، فغضب الملك وأمر ببناء متاهة لتحجب هذين الحبيبين عن مملكته، ويختلف رواة تاريخ المدينة كالعادة فى ذكر سبب بناء المدينة ووصفها، فمنهم من يقول إن الملك أمسك بالعاشقين ولم يرد أن يلوث بدمائهما مدينته؛ ولهذا بنى «المتاهة» بناء على نصيحة العراف أو نصيحة ابنته، ومنهم من يقول إن الوزير كان عاشقا، ولهذا رأف بحال العاشقين وبنى لهما المتاهة التى تكاثرا فيها حتى أصبح عدد سكانها يفوق عدد سكان المدينة، ومنهم من يقول إن عمر المتاهة من عمر المدينة ذاتها، أو أن العشاق هم الذين بنوا المتاهة ليحافظوا على أرواحهم، وآخر الروايات تقول إن آلهة الحب والعاطفة هى التى شيدت هذه المتاهة لأنها شعرت بأن آلهة اللذة تحسدها على جمالها وافتتان الناس بها، وعن وصف المتاهة يقولون إنها تحتوى على كل ميزات المدينة مضافا إليها أن أرواح الأحباء تظل سابحة فى ملكوتها نظيفة خفيفة بلا ملل أو تعب، وأن سكانها يهيمون فى ممارسات جنون لا يبقى معها عطش أو جوع.
تغيب «متاهة» الحب أو «جنته» التى يصفها الكاتب، ولا يتأتى ذكرها ثانية إلا فى آخر الرواية، حينما يقابل الراوى شخصاً عجوزاً، يكاد يكون مجنونا، يحدثه عن المدينة وأهلها وفنون اللذة التى مارسها وعرفها، ويدلى له بخبرته فى هذه المسألة وسرعان ما يناقض كلامه وأحكامه وفتاواه، ويذكر عكسها، ليفرغ أقاويله من محتواها وتبقى فى حالة أقرب إلى الهذيان المرضى، وفى النهاية يقول للراوى: «اسمع أنا أكثر منك خبرة وأنت صديق، انج بنفسك.. لذة هذه المدينة ظمأ لا يرتوى، احتراق لا يبرد، إنها ليست مدينة لذة إنها مدينة عذاب» ثم يجهش العجوز بالبكاء متسائلا عن الطريق إلى «المتاهة» لأنها الشىء الوحيد الذى لم يجربه، ولهذا غرق فى الجنون، فمن لم يبك من الحب بكى عليه.
سؤال وحيد قد يتبادر إلى الذهن فور الانتهاء من هذه الرواية: هل مدينة اللذة الأسطورية التى تفنن الكاتب فى تشكيلها مدينة خيالية فعلا؟ أم أن الكاتب أراد ألا يصارحنا بأن هذه المدينة لا تختلف عن مدننا الواقعية التى تنكر الحب على ساكنيها، لكى لا نفاجأ بأننا نرتع فى الجنون؟
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة