كان لى قريب فيلسوف، بأقوال الحكماء شغوف، قابلنى ذات يوم فى عزاء، فانتحى بى جانبًا، واقترب من أذنى ورفع صوته جدا حتى يتغلب على صوت المكبر المرتفع، وقال:
- أنا سمعت إن ربنا فتح عليك واشتغلت فى الصحافة.
فأومأت برأسى موافقا.
فقال:
- وبتقبضوا كويس؟
فردت كفى، وفرقت ما بين أصابعى، وهززت يدى، وحركت شفتىّ، قائلا:
- يعنى.
جذبنى من يدى، وابتعد بى عن دائرة الصوت، كان الشيخ يقرأ: «وضرب لنا مثلا ونسى خلقه قال من يحيى العظام وهى رميم».
جلس على مقدمة سيارة بيجو قديمة فمالت، وقال لى:
طب إنتو ليه مبتكتبوش عن معاناة الشعب.
- معاناة الشعب إزاى يعنى؟
- يعنى كل الموظفين اللى بييقبضوا 300 جنيه.
- اشمعنى 300 جنيه بالذات يعنى؟
استراح أكثر، وقد شعر أنه استدرجنى إلى حيث يريد، مالت السيارة بشدة وهو يواصل:
- أقولك أنا بقى.. أنا مرتبى 300 جنيه، وبدفع كهربا ومية وغاز وتليفون 300 جنيه، وإيجار شقة 300 جنيه، ومصاريف كتب ومدارس 300 جنيه، ومصروف بيت 600 جنيه، ومواصلات ليا وللعيال 300 جنيه، ومصاريف بتطلع من تحت الأرض قول كمان 300 جنيه.
أخرج علبة سجائر كليوباترا سوبر من جيبه، وأشعلها، وقال:
- صحيح، و300 جنيه سجاير، يبقى الموظف اللى زيى أبو 300 ده يجيب كل التلتميات دى منين؟ كل ده ومحدش جاب سيرة تاكسيات، ولا دروس خصوصية، ولا هدوم، ولا مصاريف مواسم ورمضان وأعياد، ولا لحمة ولا فراخ ولا سمك، ولا عندى وصلة دش، ولا داخل فى جمعية، ولا بدفع أقساط.
أنهى السيجارة فى أربعة أنفاس فقط. ثم صمت تماما، وألقى عقب السيجارة على الأرض، وفركه بحذائه، الذى كان بحالة جيدة.
قام من على السيارة القديمة، فظهرت بقعة نظيفة فى مكان جلوسه، وبقعة متربة على مؤخرة بنطلونه، وضع يده على كتفى فى طريق الرجوع إلى سرادق العزاء، وقال:
- ما هو الصحافة لازم تكتب عن معاناة الشعب، أمال يعنى هم عملوها ليه؟
كان صوت المقرئ يرتفع كلما اقتربنا، وقبل أن ندخل السرادق بخطوتين سألته:
- طب وانت عايش إزاى.
كان صوت المكبر مرتفعا جدا، فلم أسمع رده، وقرأت حركة شفتيه وهو يقول:
بالـ 300 جنيه
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة