وهكذا فى كل مرة تحتاج فيها الأمة حكامها لتحصيل حقوقها، وحماية بياضاتها، ونصرة مستضعفيها، تلمس فيه الأمة تخاذل حكامها، وكأنهم عدم لا وجود، سكون ولا حراك، صمت ولا كلام.
احتلت فلسطين وجنوب لبنان والجولان، ولم يحرك حكام المسلمين ساكنا، واحتلت العراق وأفغانستان والشيشان وكشمير، ولم يغير ذلك من صمت الحكام فى شىء، وقصفت غزة بالحمم وأمطرت بالنيران ولم نر من الحكام شيئا، فلم ينكئوا عدوا أو يردوا صاعا، وجل ما سمعناه تصريحات وراء تصريحات. وكأن الحكام مصرون على خذلان أمتهم فى كل حادثة، ومصرون على أن يبرهنوا للأمة عند كل نازلة على أنهم فى واد والشعوب جميعا فى واد.
قصفت غزة فقامت جموع المسلمين ولم تقعد، وثارت الأمة من أقصاها إلى أقصاها عبر المحيطات والبحار والقارات دون أن يهتز لذلك رمش حاكم، اللهم إلا من خاف من سقوط عرشه، ولم يشاطر الحكام شعوبهم ولو بجزء صغير رغباتهم أو طموحاتهم أو تطلعاتهم أو تحركاتهم، ولما خاف الحكام على عروشهم الآيلة للسقوط من الانهيار المفاجئ تحركوا، لمناشدة العالم وأمريكا للضغط على "إسرائيل" لوقف الحرب ولم تستجب لهم "إسرائيل" بالطبع إلا بعد أن أشفت غليلها من أطفال غزة ونسائهم وشيوخهم وبيوتها وديارهم، وبعد أن أدركت أنها فى طريقها إلى الفشل فوجدت فى تلك الأصوات ضالتها ومخرجا لها من ورطتها بشىء من ماء الوجه. وهكذا يستمر الحكام فى خذلان شعوبهم وأمتهم حتى عند أبسط الاحتياجات، فها نحن لم نر حاكما ينبس ببنت شفة تنفع فى نصرة الأقصى المبارك.
وقد اعتادت الشعوب أن تسمع الشجب والاستنكار والإدانة من الحكام، شأنهم فى ذلك شأن العزل والضعفاء والنساء حتى وصل استهتارهم بشعوبهم إلى أن يشاركوهم مظاهراتهم ومسيراتهم !.
فبدل أن يحرك الحكام كل مقومات الأمة لنصرة فلسطين ولتطهير المسجد الأقصى يصمتون صمت الأموات فى القبور، ويسكنون سكون الليل. ولكن الغريب والمفارقة الكبرى فى سلوك الحكام تظهر حينما يتعلق الأمر بأمن "إسرائيل"، فها هو النظام المصرى يسهر ليل نهار على إغلاق الأنفاق بين مصر وغزة، خوفا من تهريب السلاح الذى يضر بأمن إسرائيل، ويستمر فى تصدير الغاز لإسرائيل متحدياً مشاعر الشعب العربى والمصرى، وكذلك الأمر حينما سقطت صواريخ كاتيوشا من جنوب لبنان على "إسرائيل" فى فبراير 2009، حيث سارع الكل إلى نفى علاقته بالأمر، وسارع الجيش اللبنانى بتعزيز قواته فى المنطقة والبحث عن مصدر الإطلاق، وكل ذلك لأن الأمر يتعلق بأمن "إسرائيل".
ولا يغيب عنا كيف تؤمن الأردن وسوريا جهتيهما مع "إسرائيل" فلا تسمحان لطير أن يتجاوز الحدود ليضر بأمن "إسرائيل"، ولا ننسى الدقامسة الجندى البطل الذى حكم عليه النظام الأردنى بالسجن مدى الحياة لقتله سبع سائحات "إسرائيليات" عام 1997 على الحدود بين الأردن و"إسرائيل"، وكيف أدان الملك حسين الهجوم وزار "إسرائيل" لتقديم العزاء لعائلات الضحايا "الإسرائيليات" ودفع كذلك تعويضات لهم!
أما قطر زعيمة العرب المزعومة فهى من جهة تطبّل وتتباكى على الحقوق الفلسطينية والحقوق العربية الأخرى التى انتهكتها ولا تزال إسرائيل، وتنتقد كلا من يقوم بأى اتصال مهما كان نوعه مع الإسرائيليين بل تعد ذلك عاراًً لا يمكن السكوت عليه أو التغاضى عنه وتضعه فى خانة "العمالة والخيانة"، من خلال صياح قناتها المعروفة الجزيرة، ومن جهة أخرى تمد إسرائيل بالبترول، وتقوم ببناء المجمعات الرياضية فى إسرائيل وتعقد اللقاءات وقريباً سوف تفتح سفارة لإسرائيل على أراضيها.
فحقا إنها مفارقة كبرى فى مواقف حكام العرب، تراهم أسودا حينما يتعلق الأمر بأمن "إسرائيل" ولا تسمع لهم صوتا حينما يتعلق الأمر بالفلسطينيين. ولكنه بات واضحا وجلياً أن ما تقوم به قوات الاحتلال من ترحيل وهدم لبيوت المقدسين وتهويد القدس جريمة بشعة فى الاعتداء على المقدسين، وأن فرض سياسة التهجير والاستيلاء على البيوت جعل الأراضى الفلسطينية المحتلة، وكأنها منفصلة عن عالمنا الإسلامى والعربى، وهذا ما لمسناه فى الأيام السابقة حيث كانت حالة الأراضى الفلسطينية تسودها حالة من الترقب الشديد حيث شهدت القدس المحتلة نفيراً عاماً وغضباً عارماً فى ظل مخطط الإرهابيين الصهاينة، لاقتحام وتدنيس الحرم القدسى فى يوم الخميس السابق، وكذلك الكشف عن خمسين مخططاً استيطانياً وتهويديا أعدها الصهاينة لشطب المدينة المقدسة من سجل التاريخ الإسلامى والعربى فى الماضى والحاضر والمستقبل، ولقد أصبحوا المقدسين يتحملون الصعاب يوميا فى حياتهم النفسية والمادية والمعنوية من أجل الصمود فى المدينة المقدسة التى نشئوا فيها وعاش فيها من قبلهم آباؤهم وأجدادهم، ولم نشهد أى غضب وانفعال فى الشارع العربى والإسلامى. وإن دل هذا على شىء إنما يدل على أن الشعوب أصبحت تخاف من عصا حكام الأنظمة، لأنه بات جليا بأن كل من يظهر غضبه لنصرة فلسطين أصبح يضر بالأمن القومى لدولته ونظام حكمها.
ولكن يبقى أن نؤكد على حقيقة لا مفر منها وهى أن الأقصى بحاجة إلى تحرير وليس فقط إلى حماية من قطعان المستوطنين، فالقدس المباركة وكل فلسطين المباركة ترزح تحت الاحتلال منذ عشرات السنين، وأنين المسجد الأقصى كل تلك السنوات الأصل أن يكون كافيا لإيقاظ الهمم والعزائم، وإثارة النخوة والشهامة.
فصحيح أن المصلين العزل الذى تنادوا من كل زاوية وحى فى أرجاء فلسطين ممن استطاعوا وصول المسجد الأقصى، بعد أن حولته قوات الاحتلال إلى ثكنة من ثكناتها، وبعد أن جعلت دخول القدس منذ زمن طويل محصورا بسكانها وسكان الخط الأخضر، وتلبية النساء لذلك النداء رغم ضعفهن، والشيوخ رغم كهولتهم، فاستطاعوا بصدورهم العارية وسواعدهم الضعيفة أن يحولوا بين المتطرفين اليهود وبين اقتحامهم لباحات المسجد الأقصى، ولكن ذلك لا يعنى أنهم قادرون على ذلك كل مرة، فاليوم قدروا، ولكن قبلها بأيام اقتحمت جماعات يهودية من باب المغاربة وأقامت الشعائر التلمودية بساحاته، وكان من بين المقتحمين للمسجد الأقصى بعض السياسيين الصهاينة و"الربانيم"، وحسب بيان صدر لـ"مؤسسة الأقصى للوقف والتراث" فإن أكثر من 250 فردًا من أفراد الجماعات اليهودية قاموا باقتحام المسجد الأقصى على مجموعات متفرقة، ولا يعنى ذلك أن المسجد الأقصى أصبح فى مأمن من التدنيس، فهو يتعرض له ليل نهار من قبل المتطرفين والقوات المحتلة المرابطة فيه، ولا يعنى ذلك أصلا أن هذا ما يحتاجه المسجد الأقصى، فالمسجد الأقصى يحتاج إلى تحرير وتطهير من احتلاله الغاشم، فلتكثف الجهود، ولتتوجه الأبصار، ولتعلو الأصوات، ولتبح الحناجر فى مناداة كل من حاكم ومحكومين لكى يؤدى واجبه الذى لا مفر منه.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة