ليس للحب شكل واحد يظهر فيه ولا يظهر فى سواه، له من الصور الكثير، ومن الآيات ما لا يحصى ولا يعد، فى رحَابِه متسعٌ للجميع، كلٌّ يأخذ منه على قدر قلبه، وكلٌّ يعطى له بقدر ما تستطيع روحه أن تعطى، من يريد أن يرى الحب بعدسة محدبه، تجمع خيوط العشق وتصبها فى بؤرة واحدة فليشاهد فيلم «المليونير المتشرد» الذى كتبت عنه قبل ثلاثة أسابيع مستنتجا أن كل ما فى العالم من معوقات ساعدت «جمال» بطل الفيلم فى التقائه بمحبوبته «لاتيكا»، ومن يريد أن يرى الحب بعدسة مقعرة يتنزل عليها شعاع الحب فتنشره فى الأرض، ليأكل منها الطيب والمحب والقوى والضعيف فليشاهد فيلم «سفن باوندز» الذى قام ببطولته واشترك فى إنتاجه الممثل الأمريكى الخلاب «ويل سميث».
أجمل ما فى هذا الفيلم هو قدرته الفذة على مزج المتناقضات، فيه الحب أداة للألم وللأمل فى آن، قصته تدور حول السيد «تيم» الذى تسبب فى حادث تصادم، راح ضحيته سبعة أشخاص ضمنهم زوجته الحبيبة، إلا أنه لم يستسلم لهذا الفقد القدرى، وظل يحاول طوال الفيلم أن يجعل ذكرى هذه الحادثة المدمرة دافعا لإعطاء الطيبين ما يستحقونه من حياة كريمة، وعيشة هنية.
يقرر «تيم» أن ينتحل شخصية أخيه الضابط «بن» الذى يعمل فى دائرة الإيرادات الداخلية المختصة بتحصيل ومراقبة الحاصلين على قروض بنكية، شخصية أخيه التى يستحوذ عليها تسهِّل مهمته فى مساعدة الناس، ومنذ تلك اللحظة يصبح «بن» نجده بين أحداث الفيلم ماشيا فى الأرض مستمتعا بإعطاء الناس ما يريدون دون أن يطلبوا، يختار الطيبين ليجعلهم مستحقين لعطاياه، مشترطاً أن يكونوا صالحين خيرين، يهب بيته لامرأة مهاجرة من أصول إسبانية تعانى من تعذيب صديقها لها ولطفليها، ويهب امرأة عطوفا جزءا من كبده، ويهب أخاه فصين من رئته، ويهب طفلا من أصول أفريقيه نخاعه العظمى، ويهب كليته لرجل أفنى عمره فى تعليم أولاده، وكلما تبرع لأحد بجزء منه تذكر حبيبته وزوجته، وهى مبتسمة مطمئنة، تمرر يدها على جبينه مخففة آلامه المحببة، وكأنه يقول: ما الألم إلا عرض زائل، وما السعادة إلا الرضا وحب الناس للناس. تتبقى شخصيتان يحبهما «بن» ويقرر أن يساعدهما، الشخصية الأولى هى «عذرا» مندوب المبيعات اليهودى الأعمى، الذى يحب الموسيقى ويود أن يعلمها للأطفال، والشخصية الثانية هى إيملى الفتاة الوحيدة، التى تستأنس بكلب «نباتى» حزين!! والمريضة بداء وراثى فى القلب، الأول يحتاج إلى عينه والثانية تحتاج إلى قلبه، والموقف عليه وعلى أصدقائه وأحبائه صعب ومرير، وما عقَّد الأمر أكثر هو وقوعه فى حب إيملى، التى لم تحبه لأنه جعلها تستعيد إحساسها بأنوثتها فحسب، وإنما لأنه جعلها تستعيد شعورها بإنسانيتها، يجفف ذكرياتها الحزينة، ويستعيد بهاء ماضيها من بين الغبار، فتعشقه ويعشقها، ويقرر أن يعطيها قلبه آمنا مطمئنا.
«بن» لم يبتسم طوال الفيلم إلا تصنُّعا، وكأن الابتسام واجب ثقيل يريد أن يتخلص منه فى أقرب وقت؛ ليعود إلى حالة الزهد الصوفى التى يحبها، ويظهر هذا جليا فى ارتباك ملامحه أثناء الابتسام المفتعل المُجامل، لتبقى الصور والذكريات هى الرصيد الوحيد للابتسام الحقيقى، وتمر أحداث الفيلم، لا نرى الابتسامة إلا على شفاه من يساعدهم «بن»، مستمتعا بتحويل آلامه وذكرياته الحزينة إلى سعادة حقيقية على وجوه المختارين، متعته فى تحويل القبح إلى جمال، والموت إلى حياة، والألم إلى حب صاف، وما يؤكد على هذه الفلسفة ما قاله عندما رأى سمكة قنديل البحر السامة أول مرة حينما كان ابن الثانية عشرة وقال عنها أبوه إنها أكثر الأشياء المميتة على وجه الأرض، لكنه رآها أكثر الأشياء جمالا، وفى نهاية الفيلم يقرر الانتحار باستخدام قنديل البحر المميت الجميل، ليهب قلبه لحبيبته، وعينه لعذرا، وفى مشهد احتضاره الأخير يتذكر ترنحه وهو يبحث عن زوجته بين الجثث فلا نعرف أيصرخ من الذكرى أم من ألم اللدغ؟
فى نهاية الفيلم نرى «بن» موزعا بين الناس، وكأنه اختار أن تتفرق حياته الفانية وحبه الفياض، على الوجود، ليكتسب حيوات كثيرة وجميلة بدلا من حياته البائسة، وفى النهاية لا نرى لمسة جمال إلا من صنع «بن» ولا نرى ابتسامة مشعة، إلا من خلال ملامح «بن»، وتلتقى «إيميلى» بـ«عذرا» فتنظر فى عينه التى كانت عين «بن» ويحضنها ليضم قلبها الذى كان قلب «بن» ليتحقق بهذه النهاية المبهجة والمفزعة معنى الحب الأسمى، وهو الفناء فى المحبوب، والبقاء فى الأبدية.
لقاؤنا موصول.. فإلى الأسبوع القادم.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة