◄ البنا: حد الردة حماية للحكام.. و«الشكعة» يرفض تعطيل «حد الردة» من أجل الدولة المدنية.. و«بيومى» يربطه بجريمة الخيانة العظمى
◄مشروع قانون الردة الذى كشف عن وجوده يوسف البدرى ينص على وجوب قتل المرتد عن الإسلام بعد استتابته 30 يوماً
إذا أردت أن تكتب تقريراً معبراً عن الحالة الدينية فى مصر فى الفترة الأخيرة فعليك أن تتأمل هذه المشاهد جيداً.. فبين عشية وضحاها كانت منازل البهائيين فى قرية الشورانية بسوهاج، أثراً بعد عين، وقد هجرها أهلها، خوفا من بطش الأهالى، الذين اعتبروا هؤلاء البهائيين مرتدين فأرادوا تطبيق الحد عليهم، الصورة الأخرى التى احتلت المشهد أيضاً كانت للشاب المتنصر محمد حجازى فيما اعتبر هجوما على الدين الإسلامى فى مؤتمر مناهضة التمييز الدينى، مما دعا بعضا من المسلمين ليمطوا شفاههم امتعاضاً وحسرة على عدم تطبيق حد الردة عليه من قبل، أما الصورة الأخيرة فكانت للمتنصر ماهر الجوهرى وهو يحصل على توقيع القمص متياس نصر كاهن كنيسة العذراء، على شهادة تعميد موثقة، لتخرج أصوات مطالبة بتطبيق حد الردة عليه، وأولها كان الشيخ يوسف البدرى الذى كشف عن قانون قديم للردة ونشرته «اليوم السابع» العدد الماضى، يحتوى فى أحد بنوده على وجوب قتل المرتد عن الإسلام بعد استتابته 30 يوماً، بل اتهامه لمن يرتد بأنه يزدرى الدين الإسلامى ويسبه، ليكتمل بعدها المشهد بتعالى نبرة تكفير الشيعة بوصفهم بأنهم فرقة ضالة، سواء أكان الدافع وراء هذا الرأى سياسياً أم غيره.
الصور السابقة اشترك فيها عدة أطراف ولكن القاسم الوحيد بينها هو مفهوم واحد: «حد الردة» بوصفه حكما إسلامياً رادعاً لمن دخل الإسلام برغبته ثم أراد الخروج منه مرة أخرى، وهو من الحدود المختلف عليها فقهيا، فالذين يميلون إلى التشدد فى تطبيقه يستندون إلى حديثى الرسول (صلى الله عليه وسلم) «من بدل دينه فاقتلوه» و«لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إلـه إلا الله وأنى رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزانى، والمارق من الدين التارك للجماعة»، وهما حديثان صحيحان إلا أن الطرف الآخر اختلف فى تأويلهما، استناداً أيضاً إلى قوله تعالى فى سورة البقرة «لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى» الآية 256، باعتبارها نصا قطعيا، وما يأتى بعدها فى الفقه فهو من الجزئيات التى تحكمها هذه الآية باعتبارها لم تنسخ وغير قابلة للنسخ، فتطبيق هذه الآية مع الفهم للأحاديث السابقة يستوجب الربط بين ارتداد الشخص ومهاجمته الإسلام بعد ارتداده.
وهذا لم يكن الاختلاف الوحيد، فهناك خلاف آخر حول مدة ما يسمى بـ«الاستتابة» وهى دعوة المرتد ونصحه بالعودة للإسلام، فالبعض اعتبرها ثلاثة أيام يقتل بعدها المرتد، فى حين أن هناك رأيا آخر يقول إن حدود الاستتابة تقف عند اليأس من عودة المرتد إلى الإسلام سواء طالت المدة أو قصرت، أما الرأى الثالث فإنه يرى أن المرتد يستتاب أبدا ولا يقتل وذلك لأن التلويح بالقتل فى هذه الحالة يعد نوعا من الإكراه على العودة للإسلام مرة أخرى وهو ما يتنافى مع الآية السابقة.
عند هذا الحد لم يخرج الخلاف عن دائرة الفقهاء وبعضهم، وهو خلاف تطور فى العصور التالية إلى خلاف حول تطبيق الحدود جميعها، فيما يسمى تطبيق الشريعة وقيام دولة الخلافة الإسلامية أو حتى التمسك بأذيال الدستور المصرى والتأكيد على المادة الثانية من الدستور التى تتضمن أن مصر دولة إسلامية، ولكن فى مسألة حد الردة بالأخص انتقل الجدل إلى مستوى البسطاء من الناس ممن يقعون فريسة بين دعاوى التشدد وثقافة التسامح مع الغير، فبرغم أن السواد الأعظم من الفقهاء اتفقوا على أن حد الردة يطبقه الحاكم أو ولى الأمر، وهذا لقطع الطريق أمام تحول المجتمع إلى شريعة الغاب، فإن البعض منهم رأى أنه ما دامت الدولة لا تريد تطبيق الشريعة، فلابد أن يطبقوها هم بأنفسهم من باب تغيير المنكر، ولعل هذا ما يفسر ماحدث فى سوهاج، ودعاوى قتل المرتدين حتى إن لم يعادوا الإسلام.
هذه المخاوف من العنف وليدة الفهم الخاطئ ليست جديدة، ففى رأى له عام 2007 قال الدكتور على جمعة مفتى الديار المصرية، إن الله قد كفل للبشرية جمعاء حق اختيار دينها دون إكراه أو ضغط خارجى, والاختيار يعنى الحرية، والحرية تشمل الحق فى ارتكاب الأخطاء والذنوب طالما أن ضررها لا يمتد إلى الآخرين، ثم أضاف: «لهذا قلت إن العقوبة الدنيوية للردة لم تطبق على مدار التاريخ الإسلامى إلا على هؤلاء المرتدين الذين لم يكتفوا بردتهم وإنما سعوا إلى تخريب أسس المجتمع وتدميرها« فإذا كان هذا الرأى لجمعة سببا للهجوم عليه من قبل كثير من رجال الأزهر، فما بالنا لو علمنا أن هناك آراء من قبل لمشايخ أزهريين أشد اعتدالاً من هذا، فرجل فى وزن الشيخ عبدالمتعال الصعيدى قال فى كتابه «الحرية الدينية فى الإسلام» إن المرتد لا يقتل وإنما يستتاب أبداً طالما لم يعادِ المسلمين، أما إذا عاداهم فـ«يقاتل» ليس كمرتد ولكن كعدو صريح للإسلام، وقد استعرض الشيخ فى هذا الكتاب 25 رأيا للفقهاء حول حد الردة، وأيضا رأى الدكتور محمد سليم العوا أن عقوبة الردة مجرد تعزير من حق الحاكم وليست حداً مشروعاً له حكم الحدود، وجميعها آراء تؤكد أن الأخذ بالاعتدال فى الحكم على عقوبة المرتد، هو ما سيقود فى النهاية إلى القاعدة الأساسية التى انطلقنا منها وهى «لا إكراه فى الدين» وهى أيضاً لا تتنافى مع مسألة حقوق الإنسان أو حق المواطنة وحرية المعتقد.
ولكن إذا حدث أن ذهب البعض إلى مدى أبعد فى الاختلاف حول حد الردة مثل رأى جمال البنا الذى ينكر وجود حد الردة من الأصل، بل ذهب أبعد من ذلك بوصفه حد الردة بأنه «مجرد صناعة فقهية سياسية» لخدمة الحكام، ولا علاقة لها بحماية الدين، وأضاف: فقهاء الحكم صنعوا حق الردة ووضعوا له قائمة طويلة من التهم مثل عدم إطاعة الحكام وإنكار الحجاب، وغيرها من القضايا العامة، فى حين أن الردة قضية شخصية تماما، مستندا إلى قوله تعالى «فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها»، مؤكدا أنه لا يوجد فى الإسلام ما يسمى حد الردة، أو وجود عقوبة لمن يخرج عن الدين، فالقرآن الكريم ذكر الردة مرات عديدة ولم يذكر مرة واحدة عقوبة لها، عكس السرقة أو الزنى اللتين وضع الله لكل منهما عقوبة محددة، بالإضافة إلى أن أيام الرسول ارتد العديد من المسلمين ولم يعاقبهم الرسول أو يتتبعهم، وكان أبرزهم اثنين من أبناء أحد الصحابة، فتوجه أحدهم للرسول وقال له: خرج ابنى عن الإسلام، فرد الرسول: دعه، فسأله: أتدعه يدخل النار؟ فرد عليه الرسول: «لا إكراه فى الدين»، وعن حروب الردة يقول البنا إنها لم تكن ردة إسلامية وإنما كانت سياسية، حيث رفض بعض المسلمين مبايعة أبى بكر، ودفع الزكاة، وأرادوا الرجوع للأحكام القبلية، واعتبروا أن الإسلام انتهى بموت الرسول، فكانوا مجرد ثائرين على الحكم دون الخروج عن الاسلام، وبالتالى لا علاقة للردة بالخروج عن الدين.
كما أن هناك رأيا آخر للدكتور أحمد صبحى منصور، يؤكد فيه أنه لا يوجد فى القرآن الكريم ما يؤيد حد الردة، وأنه يقوم على حديثين آحاد يفيدان الظن ولا يفيدان اليقين.. وتبين للرأى العام أن الرسول لم يقتل أحداً من المنافقين، وهم الذين نزل القرآن يحكم بكفرهم، ولو كان هناك حد للردة لطبقه الرسول، منصور أيضا رأى أن حروب الردة التى خاضها أبو بكر الصديق رضى الله عنه كانت مجرد اجتهاد سياسى وليست تشريعا، وهو ما يبرر مخالفة الخليفة عمر بن الخطاب له فى هذا الاجتهاد، وهو الرأى الذى أثار رجال الأزهر ضده واتهموه هو الآخر بالكفر مطالبين بتطبيق حد الردة عليه لأنه، من وجهة نظرهم، أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة.
وقريبا من الرأى السابق جاء رفض الدكتور عبدالمعطى بيومى، أستاذ العقيدة بجامعة الأزهر، قائلاً إن حد الردة لا يعنى المفهوم السائد عنه مطلقا وإنما مفهومه أمنى، فهو جريمة سياسية طبقت عندما ارتدت جماعة عن الإسلام وعادوا للكفر، ثم تحالفوا مع غير المسلمين على الإسلام، فكان هذا انشقاقا عن النظام والجماعة، وخيانة للدولة التى ينتمون إليها، وبالتالى كانت الجريمة هى الخيانة العظمى، وهذا هو الشرط الذى يطبق به الحد، موضحا أن الدولة فى هذا الوقت كان أساسها دينيا، فمن يخرج عن الدين يخرج عن الدولة ومبادئها، وبالتالى يحاسب الفرد على هذه الجريمة لا على الخروج عن الإسلام الذى لا يعد جريمة طالما أن المرتد لم يسبب فتنة، وظل ملتزما بقواعد وقيم الدولة التى يعيش فيها وينتمى لها، مؤكداً أن الكثيرين خرجوا عن الإسلام أيام الرسول خاصة فى صلح الحديبية الذى اتفق فيه الرسول على أن من يرتد من المسلمين ويعود للكفر لا يتم التبليغ عنه ويتركه الرسول، وعندما قال الصحابة للرسول: كيف نترك من يخرج عن الإسلام فأجابهم: «من يرتد عن الإسلام لا رده الله»، وبالتالى فالإسلام لا يعرف حدا أو عقوبة لمن يخرج عن الدين، بل أكد حرية العقيدة فى قول الله تعالى «لكم دينكم ولى دين».
إلا أن هناك تيارا داخل رجال الأزهر، يرفضون حتى مجرد التفكير فى هذا الأمر، فالدكتور مصطفى الشكعة، عضو مجمع البحوث الإسلامية، احتد على هذا الرأى مؤكداً أن الشريعة حسمت هذا الأمر بأن من يرتد يستتاب ثم يقتل، والقول بأنه يشترط مفارقته للجماعة أو دخوله فى زمرة أعداء الإسلام، فهى متوفرة فى حالة المرتد، الشكعة أيضا رفض القول بعدم النظر إلى تطبيق الحدود أو الشريعة من أجل مدنية الدولة، وهناك أيضاً رأى آخر أكثر تمسكاً بتطبيق حد الردة، وهو للدكتور محمد أبوليلة، أستاذ الدراسات الإسلامية بالأزهر، فهو يراه حداً قائماً لا جدال فيه ولا يتناقض مع آية «لا إكراه فىالدين»، مفرقا بين الإكراه فى الدين، والتعدى على حقوق الدولة المسلمة، على حد قوله، مضيفا أن التعامل مع الشخص المرتد يعتمد على عادة إحياء الدين بداخله وإقناعه لكىلا يذهب إلى الجحيم، ولكن فى حالة استمراره على موقفه، يؤكد أبوليلة أنه لا يمكن أن نتركه دون عقوبة، لأنه يضر بمصالح الأمة المصرية والإسلامية.
أبوليلة أيضا اتهم من يطالبون بعدم تطبيق الردة أو حتى إنكاره، بأنهم يعملون لحساب أطراف خارجية، نافيا فكرة تناقض حد الردة مع فكرة المواطنة أو أنه يعنى نوعاً من الاضطهاد بقوله: «كل مواطن داخل مصر له حقوق وواجبات متساوية وحد الردة يحافظ على المجتمع وكل متنصر لابد أن يطبق عليه، بعد تطبيق القواعد الشرعية».
ورغم أن كل هذا الجدل حول عقوبة الردة فإن أنصار تطبيق الحد مثل الشكعة وأبو ليلة، يتمسكون هنا بتأويل العقوبة، على أساس أن الخلاف فى البداية كان على العقوبة ومدتها ومن ينفذها، بينما يرى التيار الآخر أن الخلاف حول «النص» أى حول تحديد متى يكون الإنسان مرتدا، يستحق أن يطبق عليه الحد، ولكن فى النهاية الجميع اتفقوا أن العقوبة لا يطبقها الأفراد، وهو ما فسره الدكتور أحمد شوقى الفنجرى عضو مجمع البحوث الإسلامية، بأنه أكبر إساءة للإسلام مثلما حدث فى الشورانية بسوهاج، وقال : الذى يقيم الحد هو الحاكم، وليس لأحد غيره أن يقرره كعقوبة، وحد الردة فى رأيه وإن طبقه الحاكم فلابد أن يكون له ضمانات أيضاً، الفنجرى أيضا شدد على أن الإسلام أرسى ركيزة حرية العقيدة، فيجوز للشخص أن يتنصر أو يعلن إسلامه ولكن الشىء الوحيد الذى يعترض عليه الإسلام فى هذه الحالة هو أن يهاجمه الشخص الذى ارتد عنه أو يلعن المسلمين أو يشكك فى عقيدتهم.
السجال بين المطالبين بتطبيق حد الردة، ومن يرفضونه، سيظل دائراً طالما ظل كل منهما ينظر للآخر بوصفه معتمداً على تأويلات هو يرفضها، فالمؤيدون لحد الردة يعتبرون من يرفضونه أنهم إما مجتهدون أخطأوا أو جهلاء أو عملاء لأعداء الإسلام، بينما يرى الرافضون من يطلبون تطبيق الحد بأنهم أصوليون ومتجمدون يرفضون التجديد أو إعمال العقل فى القضايا والنصوص الدينية، بينما يتجاهل كل من الطرفين أن يحدد المفاهيم التى يدور حولها الجدل، مثل الارتداد وحرية المعتقد والمواطنة والدولة المسلمة وصولاً إلى مصطلح تطبيق الشريعة الذى هو الأصل فى مخاوف الرافضين وهو الهدف من مطالب المؤيدين.
لمعلوماتك...
◄90 ألف عضو بجماعة صندوق «برنابا» طلبوا من الأمم المتحدة كفالة حق الردة
◄11 هجرية أرسل الخليفة أبو بكر الصديق جيشا بقيادة خالد بن الوليد لمواجهة الذين ارتدوا عن الإسلام بعد وفاة الرسول «صلى الله عليه وسلم» فيما سمى بـ «حروب الردة».
◄256 رقم آية «لا إكراه فى الدين» بسورة البقرة
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة