مشهدٌ مألوفٌ جدًّا: شابٌّ يقف فى محطة مترو الأنفاق منتظرًا قطاره وفى يده كتابٌ: فكرٌ، رواية، ديوانٌ شعرىٌّ، فلسفة، أو حتى كتابٌ فى الاقتصاد؛ امرأة مُسنّةٌ تجلس فى حديقة، تقرأ ليس هنا من أسفٍ، بل هناك، فى تلك البقعة المستنيرة من العالم: أوروبا، وكذا فى الشرق الأقصى ترى تلك المشاهِد، يعرفون كيف يملأون وقت الفراغ (وقت الفراغ= كل ما عدا وقت العمل والعبادة والنوم والطعام) بما يملأ العقلَ والروحَ والقلب، كلُّ دقيقة تمرُّ من أعمارنا، يعرفون، لن تعود أبدًا، فكيف نهدرُها؟! لصالح مَن؟ بل رأيتُ بأحد مَحالّ باريس، فيما نقفُ فى طابور الكاشير لندفعَ ثمن مشترواتنا، رأيتُ مَن يضع سلّته التى تبضّعَ فيها أمامه على الأرض، ويدفعها بقدمه كلما تقدّم الطابور، لِمَ؟ لأن فى يديه كتابًا يطالعه انتظارًا لدوره، مجرد دقيقة أو دقيقتين، يضنُّ بهما أن تضيعا من عمره هباءً! هذا هناك.
بينما هنا، جرّب، مثلى، أن تجلس فى مقهى وتقرأ، لتجد العيونَ قد حاصرتك كأنك أتيتَ أمرًا إدًّا! وسوف تنقسم ألسن الحال ما بين مُستنكِرٍ فِعلتَك، أو مُشْفِقٍ عليك؛ (لأنك تتركُ الحياةَ وتفرُّ إلى الورق)، وما بين متهِمك بالاستعراض وادعّاء الثقافة!
القراءةُ هناك نشاطٌ يومىٌّ وجزءٌ أصيل من مهام عمرك، القراءةُ هنا رفاهٌ الاستغناءُ عنه أفضل!
ولِمَ نتكلمُ عن الـ «هناك» البعيد؟ بل هنا، فى الجوار جدًّا، حيث النقطة السوداء من شرقنا الأوسط، على مرمى حجرٍ من خليج العقبة، حيث العدوّ المقيم: صهيون، قالتِ الإحصاءاتُ إن متوسط قراءة الفرد الإسرائيلىّ أربعةُ كتبٍ فى الشهر! فكم كتابًا، بالمقابل، يقرؤه الفردُ العربىُّ فى العام؟ فى العِقُد؟ فى العمر؟ هذا موجع.
لكن حدثًا جميلاً قد حدث بالأمس. أربعةٌ من الشباب الصغير، أعمارهم بين التسعة عشر، والثمانية والعشرين، قرروا أن يتمرّدوا على كلّ ما سبق من »حقائق« أثبتها الواقع والأرقام والإحصاءات، قالوا بصوتٍ عالٍ، يليق بفتوّة أعمارهم الغضّة وحماسها: «نحنُ نحترمُ الكتابَ!» ورفعوا هذا الشعار المناوئ السائدَ فوق مشروعهم البِكر الذى أعطوه اسم: «دار الكُتب».
أربعةُ الشباب هم: محمد مفيد، محاسب؛ محمد مجدى، محاسب ومصمم جرافيك، مصطفى الحسينى، مهندس مدنى؛ وأحمد الساعاتى، طالبٌ بكلية خدمة اجتماعية وصحافى تحت التمرين. وأما مشروعهم الوليد، الذى أتمنى على كلّ مثقفى مصر وكُتّابها أن يدعموه، فعبارة عن موقع إلكترونىّ«، يقوم بتوثيق الكتب العربية على الشبكة العنكبوتية، قالوا فى تدشينه: إنها فكرةٌ عربية مستقلَّة لا تسعى للتربّح، وإنما تضعُ نصب عينيها أن تعود بشعوبنا العربية إلى أصالة تحصيل المعرفة عن طريق نشر وتكريس ثقافة القراءة، بأسهل الطرق، وأقلّها كُلفةً.
البدايةُ المنهجية التى انتهجها أولئك الشباب تشى بأن الأمرَ ليس مجرد حماسة جماعةٍ طالعةٍ لتوّها من مقعد الجامعة لتفتح كوّةً على وهج الحياة والحُلم، ثم سرعان ما تنطفئ الجذوةُ مع أول انهزامة أو إخفاقة.
ذاك أنهم رصدوا، بدايةً، كمًّا هائلاً من المعلومات والأرقام والإحصاءات، مسْحًا من الإسكندرية حتى أسوان، حول دور النشر، المؤلفين، الكتب، الإصدارات، المكتبات، منافذ توزيع الكتاب، والمهرجانات الثقافية، وهلمّ جرا من عوالم الكتب، قديمها وحديثها، قبل أن يَخُطُّوا خَطَّهم الأولَ فى خُطَّتِهم.
بل ودرسوا اهتمامات الجمهور المصرى من حيث عادات القراءة وتفضيلاتها، أما هدفهم من المشروع، فإنشاء قاعدةِ بياناتٍ شاملة تضمُّ كلَّ ما يمكن حصرُه من كتبٍ عربية ثم توثيقها إلكترونيًّا ضمانًا لها من الضياع من جهة، وتيسيرًا على القارئ الحصول عليها فى لحظة من جهة ثانية. كذلك إنشاء قاعدة بيانات لكافة المؤلفين العرب ودور النشر والمكتبات تُتيح للباحث المعلومةَ البحثيةَ فى وقت وجيز.
بالأمس، أقاموا احتفالا لتوزيع جوائزَ على الفائزين فى مسابقة ثقافية دورية يقيمونها لتشجيع القراءة وتحصيل المعرفة، وحدث أن شرفونى بدعوتهم كضيفِ شرفٍ، رفقة الكاتب الكبير بهاء طاهر، وهو الأب الروحىّ لهؤلاء الشباب، وأحد كبار الداعمين ذلك المشروع.
قالوا إن الكاتب د. نبيل فاروق، نصحهم ألا يعلنوا عن أعمارهم، ذاك أن مجتمعاتِنا العربيةَ سَلَفيةَ الهوى، لا تثقُ كثيرًا بالشباب. لكننى سأختلفُ مع صديقى د. نبيل وأقول لهم: بل قولوا: إننا شبابٌ صغارٌ، امتلكوا حُلمًا كبيرًا فاضطلعوا بمشروع نبيل. وأنتم أيها الكبار، عليكم أن تدعمونا أدبيًّا ومعنويًّا وماديًّا. وإن لم تساعدونا، فقط راهنوا علينا. وإن أعجزكم الرِهان، فدعونا وشأننا، وهذا أضعفُ الإيمان.
أقولُ لكم: نراهنُ عليكم. ولسوف تواجهكم معوّقات ومُحبطاتٌ، طريقكم ليس مفروشًا بالورود والتصفيق والتحايا، لكنْ، أكلموا ما بدأتم ونحن معكم. وأقولُ لقراء اليوم السابع، ادخلوا موقعَ أولئك الشباب الجميل: http://www.daralkotob.net/،
وشجعوهم. فَهُمْ، ونحنُ، والكِتابُ، ومصرُ، نستحقُّ هذا.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة