فى جوف الجبل يكمن الذهب وفى أعماق المحيطات ينام اللؤلؤ وفى حدائق القبة يرقد الشاعر «وليد منير» مستأنساً بمرضه ومكتفياً بحيائه عن السؤال، يعانى من تلف أصاب الكبد، ومن جلطة تآمرت على المخ، ومن غفلة شملت وزراء الصحة والثقافة والمالية، ومن تجاهل أصحاب البدل والكرافتات، ومن جعجعة محترفى الانتخابات وملمعى الوعود، صابرا يرقد، شاكراً يرقد، عفيفا يرقد، آمنا، مطمئنا، متألما، حالما، صامتا، كريما، لا ينتظر من المنعمين منحة، ولا من المتفضلين صدقة، هكذا كان طوال حياته، وهكذا هو حتى فى أحلك أزماته، لم تجمعنى به جلسة أبدا، ولم أعرفه عن قرب، لكن من يكتب شعراً حقيقياً ندياً لا تحتاج لمقابلة جسده، فقد أمسكت بروحه وعاشرتها، فكانت طيبة فى المقام، طيبة فى الوداع، أصلها ثابت وفرعها فى السماء.
بدأ فصل البكاء، ويبدو أنه لن ينتهى، فبالأمس القريب فقدنا يوسف أبو رية، ومحمد الحسينى، ونعمات البحيرى، نادت عليهم غيمة الموت القاسية، فطاروا إليها مطمئنين، غير عابئين بتآمر المرض القمىء، ولا تقاعس المسئولين ولا حالة الجهل العامة التى جعلتنا لا نعرف أسماء المثقفين والمبدعين إلا مع نداءات الاستغاثة، روحهم الخجول تمنعهم من تسول حقهم فى الحياة والشفاء والعيشة المطمئنة، قلوبهم الناعمة تجعلهم لا يتحملون الظلام فيجاهروا بالنهار وتلك مصيبتهم الكبرى، أكبادهم رقيقة لا تجرؤ على العيش السليم وكبد الوطن مقروح نازف ألما وحسرة، وبالكبد مات الشاعر محمد الحسينى، وبالكبد مات الروائى يوسف أبو رية، ومن تلف بالكبد يعانى وليد منير وحيداً مترفعاً منعزلاً، يقول بورخيس: كم هو ملىء بالعزلة هذا الذهب، وأقول لمنير فى عزلته: كم هى مليئة بالذهب تلك العزلة.
هنا فى هذا البلد..أصبح الموت عاديا، والمرض عادياً، والألم عاديا، والإهمال عاديا، والسرقة عادية، والحياء سبة، والكرامة جريمة، وعزة النفس ذنبا لا يغتفر، هنا فى هذا البلد أنت بين خيارين اثنين لا ثالث لهما: أن تموت من الغيظ أو أن تموت من الإهمال، فوليد منير مريض بداء الكبد، وقصر العينى يرفض إدخاله وتمريضه وعلاجه بحجة أنه ليست هنالك أماكن شاغرة، وجامعة القاهرة التى أعلنت سابقا أنها ستتولى أمر علاجه لا تقدر على نفقات العلاج، واتحاد الكتاب مفلس وكئيب، وحتى منحة حاكم الشارقة المخصصة لعلاج الأدباء مازالت حبيسة الأدراج، ورئيس اتحاد الكتاب يقول إن هناك أمورا إدارية سوف تأخذ وقتا، نفس الكلام المستهلك المستفز، ونفس الحجج الواهية العمياء، وكأن المبدعين الشرفاء الأصلاء هم «الحيطة الواطية» لا الناس تعرفهم لتتعاطف معهم، ولا نقابة تضمهم لتأخذ لهم حقوقهم، ولا وزارة ترعاهم لتكفيهم مر السؤال، وزارتنا اكتفت منذ فترة بأن تفتتح الحظائر للمدجنين من المثقفين والمثقفات، والولائم لضيوف شرف المهرجانات والمؤتمرات، وسيادة الوزير مشغول بحلم اليونسكو، فلا وقت لديه لمتابعة المثقفين، ولو كنت مكانه لاتخذتها فرصة لأقول للعالم: أنا أحترم المبدعين لأنى أؤمن بالمقولة الشهيرة «إذا مات فلاح فقد احترقت مكتبتك» ولذا لن أسمح بموت مثقف جراء الإهمال والتجاهل، واتحاد الكتاب عاجز عن الفعل عاجز عن الرؤية عاجز عن الكلام، ووليد منير فى مستشفى خاص بحدائق القبة، لا يجد نفقات العلاج، يذوى جسده وتتآكل روحه، وتغيم عينه، وتتجلط أطرافه.
فى آخر دواوينه «طعم قديم للحلم» قال: «أنا سأرتّب أشياء نفسى بنفسى/نعم../سأرتبها كيف شئت/ على أىّ نحو أشاء/ وأجعل منها قصائد» فقل لنا يا منير كيف رتبت أمر المرض؟ وكيف تحملت وحدك هذا الألم؟ وكيف جعلت من الصمت ترياقا شفيت به من سموم الجهلاء المنتفخين بالأورام؟ هل رقصت كما قلت فى قصيدتك «فى مهرجان الغجر»؟ وهل دعوت الشهداء لوليمة عرس قديم؟ وهل دعوت سحابة جويا، وحديقة أينشتين والحصاد والرحى لهذه الوليمة؟ وهل وضعت ملائكة قائمين على باب مملكة من مطر؟ يقول منير: لم يعد لى سوى ألف شىء/ وشىء، ساعدونى على حملها/ واتبعونى، أنا سوف أنفخ من روح ربّك/ فى ميّتات الرسوم/ وفى جامدات الصّور..!!
صدقت يا منير.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة