أن نقترب لنبتعد.. وأن نأكل لنعيش.. وأن ننام لنصحوا.. لوازم متكررة لا نستطيع التخلص منها، لأنها ببساطة سنة الحياة. ما يهمنا فى الأمر أننا نقترب لنبتعد.
وبين القرب والبعد شعرة معاوية، رحمه الله، لولاه ما سمع بها ولا اخترعها أحد، الذى كان يرى أن الحياة ليست بالصعوبة التى يتخيلها كثيرون، وعندما يستعصى عليه أمر ما يرخى هذه الشعرة حتى توشك أن تنقطع، الأصح أنه يوهم جميع من حوله أنها توشك أن تنقطع، ويتدخل ليعدل الموازين .. يُروى عن هذه الشعرة الكثير، ويقسم البعض أنها هدية قدمها أحد ملوك الجن لمعاوية فى عيد ميلاده من فرط إعجابهم به، ويقسم شهود عيان أنها كانت من فرط رقتها يراها الناس جميعا شعرة، ومن فرط متانتها لا يراها أحد سوى معاوية نفسه.
ما بين معاوية وعلى فروق كثيرة.. على بن أبى طالب كان الأقرب إلى الناس، ومعاوية الأبعد عن الناس..معاوية الأبعد عن الله، وعلى الأقرب إلى الله ..معاوية الأقرب إلى رغبات الناس وميولهم، وهم يعرفون أنه الأبعد عنهم فيصدقونه ويصدقون رغباتهم، وعلى الطاهر الأقرب إلى الله وإلى الناس ..الذكى يعرف كيف يستميل قلوب الناس جميعها، وكيف يكون قريبا إلى رغباتهم وأحلامهم، ولكن يختار النقاء الفطرى ويختار نفسه، فيقنعون أنفسهم أن على بعيد وهو القريب.
القرب والبعد فى العشق مرتبتان متداخلتان أحيانا، ومتنافرتان أحيانا ..مثلا تشعر أنك القريب البعيد أو أنك البعيد القريب ..وما بين المنزلتين ما بين السماء والأرض ..الأدق ما بينهما شعرة معاوية..نعود إلى على ومعاوية ..على الأقرب على صواب، ومعاوية الأبعد على صواب أيضا، وكلاهما على صواب، أليس الاثنان سيدخلان الجنة.
ركزوا معى فى المشهد الذى ترونه رأى العين أمامكم فى معركة "صفين". معاوية البعيد يأمر جنوده أن يرفعوا المصاحف على سيوفهم طلبا للتحكيم..الناس يعرفون أنه بعيد وأنه يخادعهم، وهو يعرف أنهم يعرفون فيطيعونه، وعلى القريب الأقرب إلى الله والناس يقول لهم إنها خدعة، والناس يعرفون أنها خدعة فيكذبونه.
المشهد الثانى ..عمرو بن العاص تابع الرجل البعيد ..يثبت معاوية فى الحكم، وأبو موسى الأشعرى تابع الرجل القريب.. يخلع على من الحكم ..مفارقة مدهشة صنعها معاوية وحده وهى أن تبتعد لتبتعد وتقترب فى الوقت نفسه.. المشهد الثالث سأحيلهم إليه فيما بعد ....
حبيبتى تريد أن تكون "على"، ووالله.. والله لا أريد أن أكون معاوية.
