لو لم أكن طرفا فى تلك المناقشة «العبثية» مع مدير مكتب رئيس الوزراء لما صدقت أن مشاعر البيروقراطية الحكومية نحو الصحافة والصحفيين مشوهة بهذا القدر، هو لا يشترط لحضور رئيس الوزراء كشفا بثلاثمائة صحفى فقط، وبأسمائهم الثلاثية وعناوينهم، وبأسبوعين على الأقل قبل أن نحدد موعد الاحتفال، يريد أيضا حجز خمس موائد فى الاحتفال (يعنى خمسين مقعدا) تحت عنوان «تأمين» رئيس الوزراء، تأمينه ممن؟ من صحفيين يحتفلون لأول مرة بمسابقة مهنية تحفز الصحافة المصرية نحو الأفضل؟ وعلى حسابهم؟
وقلت لمدير مكتب رئيس الوزراء: موعد الاحتفال قررناه فعلا ليكون فى الرابع من يوليو (1985)، ومن قبيل حسن الاستضافة وليس «التأمين» سنخصص لمرافقى رئيس الوزراء مائدة واحدة بعشرة مقاعد، وحضور رئيس الوزراء سيضيف إليه قبل أن يضيف إلى الصحفيين، وليس عندى كشوف بأى أسماء ثلاثية أو غير ثلاثية، وأمامنا يومان فقط قبل أن نطبع الدعوات، فإذا لم تتصل بى قبلها سأعلن فى الاحتفال أننا دعونا رئيس الوزراء وهو لم يستجب.
فى عودتى إلى البيت شعرت بالحيرة، هل كان خطأ من الأصل التفكير فى دعوة الحكومة؟ وأن نتوسع فى الاحتفال على هذا النحو؟ مالها حفلة شاى بسيطة لتسليم الجوائز وكفى الله المؤمنين شر القتال؟ ومن يريد الحكومة، عليه أن يذهب إليها لأنها لن تذهب إليه، إذن.. بلاها الحكومة.
فى المساء كان يزورنى الصديق الرسام مصطفى حسين ليسلمنى تصميمه لشهادة التقدير التى سيتسلمها الفائزون، حاملة شعار الكاتب المصرى، الرسم بديع والألوان رائقة بما عهدته دائما من مصطفى حسين، وبينما نتبادل الحديث دق جرس التليفون بجوارى لأجد المتحدث من الطرف الآخر مدير مكتب رئيس الوزراء، فى هذه المرة تختلف اللهجة بالكامل عن لهجة الصباح: يا أستاذ محمود.. السيد رئيس الوزراء يخطرك بترحيبه بالدعوة وسيحضر فى الموعد المحدد، فقط أريد أن أعرف منك كم من الوقت سيبقى رئيس الوزراء فى الاحتفال حتى ننسق جدول مواعيده، هل تكفيكم ساعة زمن؟
نعم، تكفينا.
حكيت لمصطفى حسين خلفيات المكالمة فاستغرب هو الآخر قائلا بسخرية: يبدو أن ملف الصحافة والصحفيين عند الحكومة مهبب، ولا تستبعد أن يكون بعض الصحفيين أنفسهم سببا فى هذا الهباب.
هذا ذكرنى بحكاية كان قد رواها لى أحمد بهاء الدين فى سياق آخر، فذات يوم جمعت إحدى المناسبات بين ممدوح سالم رئيس الوزراء فى حينها وأحمد بهاء الدين صاحب الرصيد الكبير فى المهنة وفوق ذلك نقيب سابق للصحفيين ورئيس تحرير سابق لجريدة «الأهرام»، وباعتبار أن ممدوح سالم ضابط شرطة أساسا ووزير سابق للداخلية قبل أن يصبح رئيسا للوزراء، فقد قال له بهاء مداعبا ومتسائلا: لماذا تعتمد وزارة الداخلية فى معلوماتها عن الصحافة والمجتمع الصحفى على صحفيين درجة عاشرة.. وغالبا متخلفين مهنيا؟
يومها رد عليه ممدوح سالم بكلمات تبدو مفحمة: إيدى على إيدك.. هات لى واحد ابن ناس وتخرج بتفوق فى جامعته واشتغل بالصحافة معتمدا على كفاءته.. وقل لى بذمتك.. هل يقبل هذا الموهوب أن يصبح «ناضورجى» لحساب الأمن داخل المهنة الصحفية؟!
بالعودة إلى المهنة كان إعلان نتائج المسابقة مدويا لأنه أكد عمليا للمجتمع الصحفى كله استقلالية المسابقة ونزاهتها ومسئولية أعضاء لجان التقييم عن كل خطوة فيها، لكن الفائزين اشتكوا من نقيصة غير متوقعة، فإذا كان عدد الفائزين 25 صحفيا وصحفية من صحف عديدة قومية وحزبية، إلا أن كل جريدة اكتفت بنشر أسماء وصور الفائزين منها فقط دون الآخرين، ووجدت أن هذا يتنافى مع روح المسابقة ذاتها، لأننى أؤمن بأن هذه مهنة صحفية وليست قبائل صحفية.
واتصلت بعدد من رؤساء التحرير أرجوهم نشر أسماء وصور الفائزين جميعا بمن فيهم المنتمون إلى صحف أخرى، وفعلا استجاب بعضهم وأعاد نشر أسماء وصور جميع الفائزين.. ربما لأن صحفا عربية عديدة نشرت نتائج «جوائز الصحافة المصرية» بالكامل بعد أن نقلتها إليهم وكالات الأنباء.
لكن الأهم من فرحة الفائزين كان رد الفعل فى المجتمع الصحفى ذاته، كثيرون ركزوا على نزاهتها واستقلاليتها لكننى سأكتفى هنا ببعض ما كتبه حافظ محمود نقيب الصحفيين سابقا لعدة مرات فى مقال بجريدة «الجمهورية» بعنوان «قصة الجوائز الصحفية»، زمان.. قبل الثورة.. قدم إدجار جلاد (باشا) صاحب جريدتى «الزمان» و«جورنال ديجيبت» جائزة من عنده أسماها «جائزة مولانا جلالة الملك فاروق الأول» تمنح لصحفى واحد من المتقدمين.
لكن السياق فى ذلك الوقت كان مختلفا بالكامل، وهذا ما شرحه حافظ محمود فى مقاله المطول مستهلا له بقوله: تحتفل نقابة الصحفيين يوم الخميس المقبل بتوزيع الجوائز المالية على الفائزين من شباب الصحافة فى المسابقة التى أخذت فيها لجنة الحريات فى النقابة بزمام المبادرة.. وهى مناسبة تستحق الاحتفال فعلا لأنها مسألة لا تتصل بنهضة أسرتنا الصحفية فقط، بل لسبب اجتماعى أقوى من هذا بكثير جدا وإن لم يلتفت إليه أحد من قبل.
«فأنت إذا قلبت النظر بين كل الفئات المهنية وغير المهنية لا تكاد تجد فئة لم تطرق فكرة الجوائز بابها فى هذا العصر.. إلا فئة الصحفيين الذين يروجون لجوائز كل الفئات الأخرى، لهذا فإننى كأب لجيل الصحفيين الجدد أرى من واجبى أن أقدم التهنئة للجنة الحريات بنقابة الصحفيين التى قامت بتنفيذ هذا المشروع، وأنوه بكل الكبرياء بأن هذه اللجنة لم تعتمد فى تمويل هذا المشروع إلا على الصحفيين أنفسهم».
والسطر الأخير تحديدا من كلمات حافظ محمود كان هو الذى ركزت عليه وكالات الأنباء والصحف العربية التى أبرزت نتائج المسابقة وفكرتها.. مكررة فى كل مرة أن هذه المسابقة الإيجابية غير المسبوقة لا تعنى الصحافة المصرية فقط وإنما أيضا الصحافة العربية بمجموعها.
واتصل بى عديدون يرجون دعوتهم لحضور الاحتفال وفى المقدمة منهم الدكتور رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب فى حينها، مداعبا لى بقوله إنه يستحق تلك الدعوة بصفته كان أحد أساتذتى بالجامعة. أنت تشرفنا يا دكتور رفعت وأرجوك تعتبر من الآن أن الدعوة وصلتك ونحن فى انتظارك.
وشىء آخر: اتصل بى الصديق محمد عبد الحميد رضوان، وزير الثقافة فى حينها، ليداعبنى متسائلا: هل صحيح الجوائز الجديدة يمولها الصحفيون أنفسهم؟ نعم.. صحيح، والله حاجة مشرفة يا ريتنى صحفى علشان أساهم فيها.
قلت له وقد طرأت على بالى فكرة: من غير ما تكون صحفى.. تستطيع المساهمة بشىء آخر.. فبصفتك وزير الثقافة ابعث لنا بفرقة الموسيقى العربية لتعزف بعض الموشحات، ولو لساعة زمن، فتضيف إلى الاحتفال لمسة فنية، تمام، لك منى ذلك.
وشىء ثالث أيضا، فقد اتصل بى وزير الإعلام الأردنى محمد الخطيب وقتها، لكن من غير معرفة سابقة، هو يرجو دعوته لحضور الاحتفال ولو بصفته صحفيا سابقا، لكن أيضا باعتباره وزيرا للإعلام فهو يرجونى تعريفه بفكرة المسابقة وقواعدها لأنه يطمح فى الدعوة لإقامة مسابقة مماثلة فى الصحافة الأردنية، وفى كلمتى فى الاحتفال نوهت بحضوره معنا وتفاعله الكبير مع تلك المسابقة الأولى، وتاليا نشرت له عدة صحف تصريحات قال فيها: «لقد طلبت من مقرر جوائز الصحافة المصرية حضور ذلك الاحتفال لأننى حسدت الصحافة المصرية على هذا العيد، إن مصر رائدة دائما وسوف نسعى لإقامة عيد مماثل للصحافة الأردنية».
لكن الوصول إلى ليلة الاحتفال لم يكن هو الآخر سهلا، وقد ازدادت الصعوبة على ضوء جلستى الأولى مع مدير مكتب رئيس الوزراء قبل أن تتغير لهجته تماما فى مساء نفس اليوم، وهكذا اجتمعت مع زملائى فى «لجنة الحريات»، شرحت لهم توجسات الحكومة، وأنه لذلك فعليهم أنفسهم ضمان حسن تنظيم الاحتفال، هكذا تطوع لتلك المهمة زملاء عديدون فى مقدمتهم (الراحل) مجدى مهنا وعاصم القرش ومحمد حسن البنا ونصر القفاص ونوال مصطفى وخالد جبر وآخرون، أصبح عليهم استقبال الضيوف وإرشادهم إلى مقاعدهم مع أن بعضهم تقدم بأعمال صحفية إلى المسابقة ولم يقدر لهم الفوز، وقلت لهم: إن ما يعنينى بالدرجة الأولى، وقبل الاحتفال بالفائزين، هو الاحتفاء بالمساهمين من كبار الكتاب والصحفيين.. فإذا كانت قد فرقت بينهم السياسة.. فإننى أريد فى تلك الليلة أن تجمع بينهم المهنة.
فى النهاية أصبح برنامج الاحتفال من شقين، هناك ثلاث كلمات من أحمد بهاء الدين رئيس اللجنة العامة وإبراهيم نافع نقيب الصحفيين وأنا كمقرر للمشروع، وفى مداولاتنا اتفقنا على ألا تتجاوز كل كلمة خمس دقائق، بعدها كلمة رئيس الوزراء، ثم إعلان أسماء الفائزين ليسلم كل منهم الشهادة التقديرية وشيكا بقيمة الجائزة موقعا من أحمد بهاء الدين ومنى، حيث الجائزة الأولى فى كل فرع 1500 جنيه ثم ثانية وثالثة ليصل المجموع إلى 18 ألف جنيه.
أما الجزء الثانى من الاحتفال فكان تناول العشاء ثم الاستماع إلى موشحات غنائية أعيد توزيعها وتقوم بعزفها وغنائها فرقة الموسيقى العربية بقيادة المايسترو يسرى قطر.
جاء رئيس الحكومة إذن وفى معيته نصف دستة من الوزراء، وجاء كبار الكتاب جميعا، ورئيس مجلس الشعب ووزير الإعلام الأردنى وسفراء عرب وأجانب ومراسلو صحف عربية وممثلو خمس وكالات أنباء أجنبية. كلهم جاؤوا يشهدون ما أسماه عبد السلام داود فى عاموده بجريدة الأخبار بـ«عيد الصحافة المصرية».. أو بتعبير جريدة «الأنباء» الكويتية بعد يومين: «لأول مرة فى العالم العربى: الصحفيون المصريون يقررون جوائزهم ويستضيفون الحكومة».
فى تلك الليلة كانت الصحافة هى البطل، وكان رئيس الحكومة ودودا للغاية فى كلمته، خصوصا أن بعض الأعمال الفائزة تنتقد أداء حكومته. لكن هذا لم يمنعنى من أن أتوجه إليه فى إحدى النقاط لأقول له إن الساعة بلغت التاسعة والنصف، وبذلك تنتهى عهدتى.
سألنى مستغربا: أى عهدة؟
قلت له: مكتبك اشترط علىّ مسبقا ألا تتجاوز فترة حضورك معنا ساعة زمن.. الآن مضت الساعة.
رد كمال حسن علىّ بابتسامة عريضة: لماذا تريد أن تحرمنى من متابعة هذا الاحتفال المتحضر.. أنا سأنصرف فقط قبيل موعد العشاء.. ولولا ارتباط سابق لكنت بقيت معكم الاحتفال كله.
بعدها بيومين تلقيت اتصالا من مكتب كمال حسن على: رئيس الوزراء يريد استقبالك فى مكتبه ظهر الأربعاء.. هل يناسبك الموعد؟
ماذا جرى؟ اللهجة غير اللهجة ورئيس الحكومة هو الذى يطلب والمتحدث يريد منى تأكيدا بالحضور.. و.. و..
فى مكتب رئيس الوزراء وجدت فى انتظارى ومنه هو شخصيا مفاجأة من العيار الثقيل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة