الكراهيةُ ليست نقيضَ الحبِّ، نقيضُ الحبِّ التجاهلُ، النسيانُ، اللامبالاة. حينما لا تحبُّ شيئًا فإنكَ تضربُ عنه صفحًا كأنه غيرُ موجود، لكن الكراهيةَ لونٌ من الحبِّ، سَّلبىٌّ. لأن الكراهيةَ والحبَّ كلاهما عاطفةٌ. اعتمالٌ وجودىّ وعِراك مشاعرىّ، لكن انعدامَ الحبِّ عَدَمٌ ونسيانٌ وإسقاطٌ من الحسابات.
مقالان فى «اليوم السابع»، عن حبِّ مصر، ومقالٌ فى «المصرى اليوم»، عنوانه «أنا أقولُها علنًّا»؛ أكدَّ لى ثلاثتُهما أن مصرَ محبوبةٌ من أبنائها، وإن زعموا غير ذلك، أما الذى وددتُ أن أقولَه «علنًا»، فالعبارةُ التى هتف بها مصطفى كامل: «لو لم أكن مِصريًّا، لوددتُ أن أكونَ مصريًّا».
تعليقاتُ القرّاء، التى أكدت لى حبَّ المصريين مِصرَهم، لم تأتِ مترنمةً بالعاطفة، متأججةً بالشَّجو، غارقةً فى النجوى والثناء والتغنّى بفتنةِ مصرَ وجمالِها وحُنوِّها ونظامها وديمقراطيتها،...، بل، على العكس من ذلك، سوادُها الأعظمُ تعليقاتٌ غاضبةٌ رافضةٌ هجّاءةٌ لاعنةٌ، لسانُ حالِها يكاد يقول: لا أحبُّ مصرَ، اعطنى تأشيرةً للخارج لأفرَّ فورًا، وهل تحبُّنى مصرُ لأحبَّها إلخ». لكننى رغم كلِّ ذلك، بل بسبب كلِّ ذلك، تيقّنتُ أنَّ مصرَ محلُّها قلبُ الثمانين مليون مصرىّ، مثلما هى قلبُ قِبلةِ العالم ومَحَطُّ حُلم أسفاره، الغضبُ رديفُ الحبِّ، الرفضُ صُنْوُ الاقتران والانتماء والتوحّد والعشق، أنا لا أغضب إلا ممَن أحبُّ، ولا أساجلُ وأشاكسُ وأناوئ إلا مَن عليه أراهن، مصرُ بخيرٍ بأولادها.
مشكلةُ المصريين تظلُّ دائمًا مع الحكومة التى لا تراعى مشاعرَهم ولا تفى بأوليّات حقوقهم، من حقِّ المواطنِ المصرى أن يقارنَ نفسَه بالمواطن السويسرىّ الذى تستفتيه حكومتُه فى كلِّ صغيرة وكبيرة، صناديقُ بريد المواطنين هناك ملأى باستبياناتٍ واستفتاءات تُرسلها الحكومة لاستبيان رأيه فى أمور تبدأ بقرار قطع شجرة أو شقِّ طريق أو عمل مطبٍّ، ولا تنتهى حتى عند انتخاب الرئيس أو رفض السويسريين الانضمام إلى الاتحاد الأوروبىّ عام 1992، واستمساكهم بالفرانك ورفضهم اليورو، كل هذا يتمُّ نزولاً على رغبة «المواطِن» السويسرىّ، وليس «الحاكم».
ذاك أنهم يُسموّن الأشياءَ بأسمائِها الحقّة، فما الحاكمُ وما الحكومةُ إلا موظّفون لدى الشعب، والشعبُ هو سيدُ قراره الأوحد. يتأمل المصرىُّ كلَّ هذا فيحزنُ عميقًا، ليس من مصرَ، بل من حكومة مصر، الأوطانُ دائمًا نبيلةٌ وحانية، لكنَّ حكوماتِها هى التى تسىء لها وتظلمُ بنيها.
حينما ظلمَ قُضاةُ أثينا وحكومتُها سقراطَ، واتهموه بإفساد الشباب؛ لأنه آمن أن الحاكمَ لابد أن يكون عالِمًا بأصول الحكم، وهو ليس بالضرورة مَنْ يتمُّ انتخابُه، واتهموه بازدراء المقدّس لأنه نادى بإعمال العقل والبحث عن الحقيقة، حكموا عليه بالموت، ودبّر له تلامذتُه وخُلصاؤه خطّةً آمنةً للهروب، لكنه رفض! أبى إلا أن يموتَ على تراب أثنيا: الوطن، ذاك أنه أدرك أن مشكلتَه ليست مع الوطن، بل مع حكّام ذلك الوطن، وليست مع القانون العادل، بل مع مطبّقى ذلك القانون الظالمين، فتناولَ كأسَ سمَّ الشوكران راضيًا، واختار الموتَ على تراب بلاده، لأن الوطنَ لا يظلم، بل من يمسكون قوادَ ذلك الوطن هم الظالمون.
تعليقاتُ القراء قالتْ تلك المعانى، بشكل أو بآخر، اتفقوا جميعًا على أن مشكلتهم دائمًا ليست مع مصر، بل مع من يحكمون مصر، قال محمد إسلام عباس: «مصرُ التى فى خاطرى هى التى عندما أحتاجها أجدها، وتحترمنى شرطتُها فتعاملنى معاملةً آدمية، يحترمنى موظفوها بدون تهكُّم ولا بيروقراطية، وأن تفى حكومتُها بوعودها».
وجاء تعليق متشائم، لكنْ مُحبٌّ، كتبه، يقول: «مصر (الجماد) بتحبنى وأنا بحبها، لكن مصر هى المصريون. الحكومة اللى عملت والشعب اللى سكت على اللى اتعمل فيه يبقى أكيد الاثنين مش بيحبونى!»
ثم يأتى الردُّ الأملُ فى النهاية ليعيدنا إلى ثقتنا فى مصر التى فى خاطرى/ خاطرنا جميعًا.
كتبه «aymen» يقول: «هذا الوطنُ المتألمُ كما عبر أيامَ الضعف فى الأسرات المتأخرة، وعانى أيام غزو الهكسوس وبقى شامخًا, هذا الوطنُ الذى أقصى الفُرسَ وكسر هجماتِ المغول وآزر صلاح الدين وتخطى العثمانيين وتحمل الشركس والمماليك وكسر إسرائيل فى 73، لقادرٌ على أن يتخطى هذه الأيامَ الصعبة، مصرُ الجغرافيا والتاريخ, المجتهدون والموهوبون، سيداتُ البيوتِ والذكاءُ الفطرىُّ، تنتظر منّا الكثير، نحن لا نقلُّ عن شعوبٍ كثيرة حولنا تتقدم. ولن أقول أوروبا وأميركا، بل سأقول الهند وكوريا والمكسيك والبرازيل وجنوب أفريقيا. كلمةُ السر بسيطةٌ لكنها تحتاج إلى مَن يحبون هذا الوطن، إنها الديموقراطيةُ الحقيقيةُ والعِلم والعدالةُ للجميع».
فى مرةٍ قادمة سأكلمكم عن أحد المفتونين بمصرَ من بنيها، اختار لنفسه كُنية: «المِصَحِياتى»، على نَسَق «المسحراتى»، ذاك أنه يدعو مواطنيه للصحو والاستيقاظ، واطّراح النوم والغفلة.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة