فاطمة ناعوت

ردُّ الأشياءِ إلى أسمائها الأولى

الخميس، 28 مايو 2009 06:22 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
من أهمّ الأمور لعقد حوار ناجح بين طرفين أو أكثر، الاتفاقُ على المسميّات والمصطلحات، من أجل الوقوف على أرض واحدة فى النقاش. فلن تُجدى مناقشة موضوعة الديمقراطية، مثلاً، بين مجموعة من الناس، بينما يختلف اثنان منهم على تعريف الكلمة.

وينسحبُ الحالُ على كافة أمور الحياة وإشكالاتها، سواء المعيارىّ منها، أى القابل للتقنين والتعيير والقياس، أو غير المعيارىّ الذى لا يخضع إلا لأحكام الشخص الخاصة تبعًا لثقافته ومكونه المعرفىّ والحضارى والبيئى.

وحين نصفو إلى ذواتنا ونحاول أن نتأمل مفردات نستخدمها كثيرًا فى نشاطنا اليومى، نكتشف أننا قد نستخدمها فى غير سياقاتها الصحيحة. ذاك أن معناها الأول قد طمرته، عبر العصور، طبقاتٌ من التسييس، ثم تعمُّد التغييب، حتى لبستِ الكلماتُ فى الأخير، لدى الأجيال الأحدث، أثوابًا ليست لها. وفى محاولة ردّ الأشياء إلى أسمائها الأولى نكتشف أن مفردة «المواطَنة»، تعنى علاقةً بين مواطِنٍ ووطن. وهى علاقة تبادلية من حقوق وواجبات.

هى كذلك علاقة مجتمعية وليست فردانية. فكما للمواطن حقوقٌ لدى وطنه ومواطنيه، فعليه واجباتٌ تجاه وطنه، وتجاه مواطنيه الذين ينتمون إلى هذا الوطن. أما مفردةُ «العقيدة»، فهى علاقة فردانية مطلقة. تقوم بين إنسان، مهما كان موطنه، وبين إله ما، يؤمن هذا الإنسانُ فى ألوهيته هذا الكون. وهى من هذا المنطق علاقةٌ غير مجتمعية لا دخل للجغرافيا أو للمجتمع ولا «للآخر»، على إطلاقه، أدنى علاقة بها. وهنا، يتشعب اعتناقُ العقيدة من أحد نبعين. إما أن تكون هذه العقيدةُ موروثةً، وهو شأن السَّواد الأعظم من سكّان الأرض؛ فنجد اليهودىَّ، يهوديًّا، لأن أبويه يهوديان، فورث عنهما عقيدتيهما ومن ثَمَّ صار يهوديًّا، وينسحبُ الحالُ ذاته على المسيحىّ والمسلم، مثلما ينسحبُ على الهندوسىّ والبوذىّ، وسواهما من الأديان الوضعية، كما فى الديانات السماوية الثلاث. وأما النبع الثانى فهو أن تكون العقيدةُ مُختارَةً. أى أن يختارَ الإنسانُ عقيدتَه بملء وعيه؛ ضاربًا صفحًا عن عقيدة أبويه. وهؤلاء قلّة نادرة فى أرجاء العالم.

هم قِلَّةٌ نادرةٌ ليس بسبب حدودِ الردّة التى يطبّقُها الهيكلُ أو الكنيسةُ أو الأزهر أو العشيرةُ أو القبيلةُ أو أى سُلْطة دينيةً كانت أو عُرفية، على الشخصِ الذى يريدُ أن »يختارَ« عقيدتَه بملء إرادته، بدلَ أن يستسلمَ لاختيارٍ إرثىٍّ عَرَضىٍّ فُرِض عليه من قِبَل أسلافه، لا، بل هُم قِلَّةٌ بسبب الكسل والتواكل والارتكان إلى الأسهل. فالإنسانُ اعتاد أن يُسلّمَ ببعض الأمور القَدَريّة التى يرى أنها محكومةٌ ومحسومةٌ ولا مجال ثمة متاحًا لإعادة التفكير فيها. فمثلما نقبلُ لونَ جلودنا، التى فرضها علينا الجين البيولوجى، نقبل أسماءنا، التى اختارها لنا أبوانا، نقبل كذلك «دون تفكير» عقيدتنا التى اعتنقها، بالنيابة عنّا، سلفٌ قديم انبتّت بيننا وبينه سُبُلُ التواصل.

وحين أفكرُ فى الأمر أندهشُ كثيرًا. كيف سنواجه اللهَ يومَ الحساب حين يسألُ أحدَنا: هل اخترتَ ديانتَك؟ فيجيبُ واحدُنا، بل استسلمتُ لما اُختيرَ لى من قِبَل أسلافى الذين لا أعرفهم! كيف يحقُّ لى، كمسلمةٍ، أن أفخرَ بعقدتى وأشكرَ الله على نعمة الإسلام، وكيف يحقُّ للمسيحىّ، فى المقابل، أن يفخرَ بعقيدته، ثم أساجلَه ويساجلنى، وأُناحرَه ويناحرَنى، ثم أُكفّرَه ويكفّرنى، وقد أقتلُه أو يقتلنى، بينما لم أخترْ أنا، ولم يختر هو، ما نتفاخرُ به ونتناحرُ، كلانا، من أجله؟!

وحين أنسلخُ عن ذاتيتى لبرهةٍ فى محاولةٍ لتأمُل الأمر من منظور أوسع، أفكر أن الله تعالى بالقطع لا يريدُ منا ذلك. لا يريدنا ورثةَ عقائدَ، بل مُختارين تلك العقائد. يريد منّا أن نقرأ ونتأمل ونفكر ثم نذهب إليه يوم الحساب وقد اخترنا ما سنُسأل عنه، حتى نستحق جنّته التى وعد بها. يريدنا اللهُ جلّ وعلا أن نختاره بكامل وعينا وإدراكنا وإرادتنا، حتى نكون أهلاً لبُشراه لنا بالنعيم الخالد، لا أن نقبل ما قِيد لنا أو ما أُرغمنا عليه إرغامًا. من هنا تأتى عبقريةُ الآية القيّمة: «فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ».

كتابى يقول: «إنما الدينُ عند الله الإسلام.»، لكن بالتوراة كذلك، مثلما بالعهد الجديد، ما يقولُ مثل هذا القول عن اليهودية وعن المسيحية. وبالقطع يؤمن البوذىُّ والهندوسىُّ وغيرهما بمتانة معتقده، تماما مثلما يؤمنُ المسلمُ بمتانة عقيدته وواحديتها.

لذلك أندهشُ كلَّ الاندهاش من تطاحنات العقائد. والحقُّ أن العقائدَ لا تتطاحن، فجميعها تؤدى إلى الخالقِ الواحدِ الجميلِ الذى خلقَ لنا هذا الكونَ لنعمّره بالصلاح والجمال والحب والتعايش. إنما يتناحرُ معتنقو تلك العقائد الغافلون عن جوهر فكرة الخلق. ذاك أن العقائدَ والنظرياتِ، جميعَها، تدعو إلى الفضيلةِ والرُّقىِّ والتَّحابِّ بين الناس، لكن العطبَ، كلَّ العطبِ، دائمًا ما يأتى من مُطبّقى النظرياتِ ومعتنقى العقائد. وللحديث بقيةٌ حول المواطَنة.









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة