الأستاذ محمود عوض أنعش ذكريات جميلة لدّى بما كتبه عن أول مسابقة لجوائز الصحافة المصرية، تلك المسابقة التى كان هو مبتكرها وصاحب فكرتها والقائم على تنفيذها عمليا.. وفاجأنى بواقعة ساعدتنى على تفسير أمور شتى لم يكن لدّى تفسير كاف لها، الأهم تأكيد حقائق يتجاهلها أو يتغافل عنها البعض أحيانا.. وأقصد بالطبع واقعة اعتراض المستشار الإعلامى للسفارة الأمريكية وقتها على حصولى على الجائزة الأولى فى المقال التحليلى، واتهامه المسابقة بسببى بأنها معادية سياسيا لأمريكا!
فى هذه الفترة كنت لاجئا بقلمى فى جريدة «الشعب» الناطقة باسم حزب العمل الاشتراكى «سابقا بالطبع»، بعد أن تم فصلى من مجلة «روزاليوسف» على أثر أحداث 18و19 يناير وبعد وفاة رئيسها الراحل مرسى الشافعى، ولم أتمكن من العودة إليها إلا فى بداية عام 1986 وبعد تدخل مهم، رغم صدور الحكم التاريخى فى قضية هذه الأحداث فى أبريل عام 1980، وهو الحكم الذى أقر بأن انتفاضة يناير كانت شعبية، ولم تكن انتفاضة حرامية كما وصفها الرئيس السابق أنور السادات.
وفى جريدة «الشعب» آثرت أن أخصص قلمى للشأن الاقتصادى، وهو الشأن الذى كان ومازال محل الاهتمام العام الأكبر، معتمدا على دراستى لعلم الاقتصاد فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وإلمامى بعلم المحاسبة أثناء فترة قصيرة سعدت بالعمل فيها فى جهاز المحاسبات.
وأتذكر الآن أن مسألة المساعدات الأمريكية لمصر كانت مثار نقاش لا يتوقف وقتها، خاصة أن واشنطن كانت تلوح بين الحين والآخر بوقف هذه المساعدات فى مواجهة مواقف للرئيس مبارك، رافضة لبعض المطالب الأمريكية مثل إقامة قاعدة عسكرية أمريكية فى منطقة رأس بنياس على البحر الأحمر، أو تقديم تسهيلات عسكرية للقوات الأمريكية فى مواقع مصرية أخرى.. وفى إحدى المناقشات مع الصديق جمال الغيطانى اقترح علىّ أن أكتب دراسة تجيب عن السؤال الذى ظل مطروحاً حتى الآن وهو: هل نستطيع الاستغناء عن المساعدات الأمريكية؟ وشدنى الاقتراح وعكفت بالفعل على أعداد تلك الدراسة ونشرتها فى سلسلة مقالات بجريدة «الشعب».
واستندت فى هذه الدراسة إلى المعلومات التى وردت فى التقارير الدورية التى كانت تعدها السفارة الأمريكية كل ستة أشهر عن حالة الاقتصاد المصرى، وهى التقارير التى كانت تتضمن دائماً ذات المطالب التى كان كل من صندوق النقد الدولى والبنك الدولى يطالبان مصر وبإلحاح الإسراع بتنفيذها.. وكلها كانت تدور حول إلغاء الدعم السلعى المخصص لمحدودى الدخل، وتحرير كل الأسعار وتعويم الجنيه، والإسراع ببيع كل منشآت القطاع العام، وتقديم تسهيلات أكثر للمستثمرين الأجانب.. لذلك عجبت أن يؤسس المستشار الإعلامى للسفارة الأمريكية وقتها اعتراضه على ما كتبته بأنه كان يحتوى معلومات مغلوطة أو غير دقيقة، اللهم إلا إذا كانت تقارير سفارته كانت أصلاً مغلوطة، وفى هذه الحالة فإن ناقل الكفر ليس بكافر.
وحينما أعلن عن أول مسابقة لجوائز الصحافة المصرية اقترح علىّ مجدداً الصديق جمال الغيطانى أن أتقدم بما كتبته عن المساعدات الأمريكية فى هذه المسابقة، ظناً منه أنه يستحق أن يدخل مضمار المنافسة.. واستجبت بالفعل للاقتراح.. ووقتها لم تكن ثمة علاقة مباشرة تربطنى بالمحكمين سواء فى اللجنة العامة، أو بالمشرفين عن التحكيم فى مجال المقال التحليلى.. الوحيد الذى ربطتنى به علاقة عمل ممتازة وجميلة هو الكاتب المبدع صلاح حافظ، حينما حظيت بالعمل تحت رئاسته بعض الوقت فى روزاليوسف.
لذلك كانت مفاجأة سارة لى أن أفوز بالجائزة الأولى للمقال التحليلى.. كان سرورى بالغاً لأن الاختيار قام به أساتذة كبار فى بلاط صاحبة الجلالة، وكان اختياراً مهنياً موضوعياً أساساً.. لا أقول ذلك لأننى فزت بها، ولكن لأن قائمة الفائزين أكدت ذلك.. وربما لا يعلم كثيرون حتى الآن أن أحد الفائزين فى هذه المسابقة «الأولى» كان زميلاً يعمل مصوراً صحفياً فى جريدة «الشعب»، والمفاجأة أنه لم يكن عضواً بنقابة الصحفيين.. أى أنه لم يفز أحد إلا بعمله أساساً.. ولعل ذلك هو سر نجاح هذه المسابقة، ويعود هذا النجاح أساساً إلى إصرار الأستاذ محمود عوض على نزاهة واستقلال هذه المسابقة.. استقلال عن الحكومة، وهو الذى جعله يرفض عرضاً سخياً من كمال حسن على، رئيس الوزراء وقتها، بتمويل جوائزها لعدة سنوات مقبلة.. وأيضاً استقلالها عن المؤسسات الصحفية، حتى لا تتحول، مثلما حدث فيما بعد، أحياناً إلى منافسة لتقاسم هذه الجوائز بين هذه المؤسسات.. كذلك استقلال عن مجلس نقابة الصحفيين، حتى لا تفسد الاعتبارات الانتخابية الاختيار الموضوعى للفائزين، مثلما أعاقت هذه الاعتبارات مجالس عديدة للنقابة عن تطبيق ميثاق الشرف الصحفى.
لكن المفاجأة السارة الأكبر لى من تلك المفاجأة التى ادخرها الأستاذ محمود عوض قرابة ربع قرن من الزمان، وكتبها فى آخر الحلقات التى نشرتها له جريدة «اليوم السابع» على مدار أسابيع، عن حكاية أول مسابقة لجوائز الصحافة المصرية التى ابتكرها الصديق محمود عوض ونجح بامتياز فى تطبيقها عملياً.
وبالطبع لم يكن سبب سرورى هو ما عرفت به عن امتعاض أو ضيق المستشار الإعلامى للسفارة الأمريكية وقتها على فوزى بإحدى جوائز هذه المسابقة، وأيضاً لم يكن سبب سرورى أننى كنت سبباً لاتهام هذا المستشار لأول مسابقة لجوائز الصحافة المصرية بأنها تبنت موقفاً سياسياً معادياً لأمريكا.. فأنا أتفهم مثل هذا الاعتراض لأن دراستى انتهت إلى أن مصر قادرة على الاستغناء عن المساعدات الأمريكية، ولن تجوع إذا ما توقفت هذه المساعدات.. ولعل هذا ما تبنته السياسة المصرية مبكراً، وقاله لى الرئيس مبارك أثناء العودة من رحلة خارجية، حينما أجاب عن سؤال لى عن بعض التهديدات الأمريكية فى عهد بوش بتخفيض أو تعليق جزء من المعونة أو ربطها بشروط بمقولة: نحن مستعدون لوقف هذه المساعدات.
ولكن كان سبب سرورى الحقيقى هو موقف الصديق محمود عوض.. فهو لم يقبل كلام المستشار الإعلامى للسفارة الأمريكية، بل استنكره، وشارك بعدها فى تسليمى جائزتى.. وهكذالم تكن المسابقة بمنأى عن تدخل الحكومة أو المؤسسات الصحفية أو مجلس النقابة فقط، إنما كانت آمنه أيضاً من أى تدخل أجنبى.. وهذا يعنى أن الاستقلال ممكن، والنزاهة ليست صعبة!.
وزاد من سرورى أكثر ما ألمح إليه الأستاذ محمود ضمنياً فى ختام مقاله حينما كتب يقول: «يومها انتهى الغداء بغير أن يبدو أن الرجل اقتنع، ولا أنا أيضاً قبلت بمنطقه، وفيما بعد أصبح الزميل عبدالقادر شهيب رئيساً لتحرير مجلة «المصور» ورئيسا لمجلس إدارة دار الهلال.. بغير أن يعرف بتلك الواقعة لسنوات وسنوات.. لكن بالطبع كنت سأحكيها له لو تقدمت أمريكا بشكوى ضده إلى مجلس الأمن!».. فها أنا أتولى منصباً صحفياً رغم أن السفارة الأمريكية فى وقت صنفتنى على أننى معاد سياسياً لها.. ولعل ذلك يضيف تأكيداً لمن يريد تأكيداً، بأن مصر لاتقبل تدخلاً فى شئونها، ولا تؤثر أى اعتراضات أو تحفظات أجنبية على مواقفها وقراراتها، وإلا ما كنت فزت فى أول مسابقة لجوائز الصحافة المصرية، وإلا ما كنت حظيت بمنصب صحفى فى مؤسسة صحفية قومية عربية قادها صحفيون عظماء قبلى.
عزيزى الأستاذ محمود عوض شكراً على كل شىء، خاصة أنك لم تحجب عنى وعن الجميع هذه الحكاية ذات المعانى العميقة، رغم أن أمريكا لم تقدم بعد شكوى ضدى فى مجلس الأمن!
وشكراً أكثر لأنك برهنت لنا عملياً أن الحرص على النزاهة فى العمل ليس صعباً، وأن الاستقلال ممكن بشرط فقط أن تؤمن بذلك.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة