فى معظم البيوت المصرية، غرفةٌ مغلقةٌ دائمًا. لا تنفتحُ إلا إذا جاءَ ضيفٌ مُهمٌّ. نسميها «الصالون» فى المدينة، ونسميها «غرفةَ الجلوس» عند أثرياء الريف المصرىّ، و«المَنْدَرَة» عند عامّته. نفتحُ الغرفةَ وندخلُ، خِلسةً مع الضيف، كى نتلصصَ على مكوّناتها.
نجدُ فاخرَ الرياش وأجملَه، نظيفةٌ دائمًا، لا شائبةَ تشوبها ولا ذبابةٌ تحوم فى فضائها، أغلى سجاجيدِ البيت تُفرَش على أرضها، وفوق آرائكها أجملُ أقمشة التنجيد، وعلى حوائطِها مصقولةِ الطِّلاء ترتفعُ الستائرُ المكويةُ وصورُ العائلة، وإن كان ثمة مكيّفُ هواءٍ وحيدٌ بالشقة، فليس أولى به إلا هذه الغرفة، التى مخصصةٌ للضيف العزيز، الذى سيزورنا ساعةً أو بعضَ ساعةٍ كلَّ عام. بقيةُ غرفِ البيت، التى يتكدس فيها أصحابُ البيت طوالَ أيام الأسبوع، طوالَ العمر، هيئتُها كيفما اِتُفق، حسب ثقافة ربّةِ البيت وآله وصحبِه.
هُم أهلنا «ومنّا وعلينا». ما ضُرَّ لو عَوَز الحيطانَ الطلاءُ منذ عشر سنين! ما ضُرَّ لو اهترأت السجاجيدُ والستائرُ والفُرُشُ أو نسيتْ أن تغتسلَ! لا ضير لو انخلعت ضلفاتُ الدواليب وتصدّعت المرايا! حمّامُ الضيوف، نظيفٌ مصقولٌ مُعطَّرٌ، وحمّامُ الأسرة فليكنْ كيفما يكون.
ويقول كثيرٌ من المصريين إن مؤسسةَ الزواج فاشلة، يقول الرجلُ: انظروا إلى المصرية بعد الزواج كيف لا تخلعُ الجلبابَ الكستور، ولا تمشِّطُ شعرَها، ولا تبرحُ التكشيرةُ وجهَها، بينما حين تخرج تكون على «سِنْجة عشرة»! وتقول المرأةُ الشىءَ نفسه: الرجلُ يجلس فى البيت بالبيجامه المقلمة المكرمشة، شعره منكوش وشواربه وذقنه مهوشة، شكله «يقطع الخميرة من البيت»! وحين يتهيأ للخروج تجد البارفان وقد فاح، والقميص المكوى والكرافات والبنطلون كسرته مثل حدِّ السيف! هكذا نهتمُّ، نحن المصريين، بـ«الآخر»، نحرصُ على أن نظهر أمامه فى أبهى صورنا، هذا الآخرُ الذى يدخلُ بيتَنا ضيفًا، أو ذاك الآخرُ الذى نخرج إليه من بيوتنا زميلاً فى العمل كان، أو صديقًا أو عابرَ سبيل، تلك ثقافةٌ ونهجٌ فكرىّ، وليس مجرد سلوك عابر، رغم أن الأصلَ هو أن نتجمَّلَ لأنفسِنا، لأننا نستحقُ أن نكون جميلين وأن نرى أنفسَنا وما حولنا جميلا ونظيفًا!
هو ذاتُه ما شهدناه بالأمس القريب حينما زارنا أوباما ساعتين، ازدانتِ الشوارعُ بالزهور واغتسلتْ بالماء والصابون وطُليت الأرصفةُ بمصقول اللون، وبمجرد أن غادرَ أرضَ مصر، عادتِ الأمورُ سيرتَها الأولى! حتى أن الفنان عمرو سليم رسم كاريكاتيورا معبّرًا فى «المصرى اليوم» صبيحةَ مغادرته: اثنان من عمال النظافة يحملان المقشةَ والدلو، واقفيْن يرتجفان أمام مسئول مُكشّر يزعقُ آمرًا: «خِلصتْ الحدوتة وأوباما مشى، الزبالة اللى كانت حوالين الجامعة ترجع مكانها عشان دى عهدة، وحِسّكم عينكم الدبَّان والناموس ينقصوا، عاددهم بالواحدة!».
والحقُّ أن الأمرَ ليس مزحةً، لأن عدسات الصحف المصرية، المستقلة طبعًا، التقطت بالفعل صورًا للعمال وهم يرفعون أوانى الزهر الفخارية عن منطقة مسجد السلطان حسن وتحميلها فى سيارات «محافظة القاهرة»، فور مغادرة أوباما المسجد! كأنما سكّانُ مصرَ «خسارة فيهم» النظافة والجمال، اللذان استحقهما الأمريكىُّ الذى لم تَدُم زيارتُه لمصرَ إلا ساعاتٍ قليلةً.
تلك الثقافةُ المصرية، وإن وشت بالاحتفاء بالآخر، إلا أنه احتفاءٌ شكلانىّ مظهرىّ غير مضمونىّ، فلم نعهد هذا الاحتفاء بالآخر مَعْنيًا بقبول الآخر فى اختلافه معنا فكريًّا أو عقائديًّا، هنا يظهرُ الوجهُ الحقيقىُّ؛ فنتناحرُ ونتقاتلُ ونسبُّ ونلعنُ ونُكفِّر! وهذا جوهرُ اختلافنا مع الغرب، وأحد أهم أسباب تأخرنا.
لو زرتَ الغربىَّ فى بيته، فلن يفتح لك الصالونَ المغلَق، لأنْ ليس لديه صالونٌ مغلق، سيُجلسك فى غرفة المعيشة مع أسرته، ولن يقدم لك الطعامَ على سُفرة طويلة يظهر من ورائها نيشٌ ضخم بمرايا يضمُّ صحونًا ثمينةً وفضيّات لا يستعملها أحد، بل ستأكل فى المطبخ الواسع العملىّ النظيف، حيث يأكلُ هو أسرتُه، وسيستقبلكَ الغربىُّ بملابسَ بسيطةٍ كالتى يلبسها كلَّ يوم، سيبتسمُ فى وجهك ببساطةٍ، ويحاوركَ ببساطةٍ، ثم يحترمكَ بعمق، وإن كنتَ مختلفًا معه فى العقيدة أو فى الفكر.