محمود عوض

خـير وربنـــا نجّانــــا منـــــــه

الخميس، 18 يونيو 2009 09:07 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
بامتداد ثلاث سنوات متتالية كان المغزى الأهم الذى حققته «جوائز الصحافة المصرية» هو أنها أعطت للصحافة المصرية فكرة مختلفة عن نفسها، فكرة أنها تستطيع أن تكون أفضل مما هى عليه، لقد ألقت بحجر فى المياه الراكدة وأعطت للمهنة الصحفية مرآة مستقلة تستطيع من خلالها أن تنظر إلى نفسها.

وكان إيمانى الثابت دائما هو أنه من الخطير للغاية أن يستسلم المرء لوهم الرضاء عن الذات ولخرافة أنه ليس فى الإمكان أفضل مما هو قائم، فكما هو حال الإعلام عموما.. فإن الصحافة المصرية لا يجوز لها الاستسلام لمقولة إنها هى الرائدة فى العالم العربى لمجرد أنها كانت كذلك فعلا ذات مرة، فالريادة امتحان عسير للنفس يتجدد مرة بعد مرة، فليس لأنك كنت رائدا قبل عشر سنوات، أو حتى قبل سنة واحدة، تصبح رائدا تلقائيا وأوتوماتيكيا إلى ما شاء الله، الريادة هى قدرة مستمرة على التجديد والابتكار وتحد متجدد مع الذات واستباق للمستقبل قبل وصوله، وإذا كان لدى الآخرين مال أكثر ونفوذ أكبر وبترول أوفر فإن لدينا ما هو أهم من كل هذا، لدينا عقول قادرة على التجديد والتطوير والابتكار.

وإذا كان قد فاز فى السنوات الثلاث الأولى للجوائز 95 صحفيا وصحفية، فإن الرسالة المتجددة لثلاثة آلاف صحفى تضمهم المهنة فى حينها هى أن كل واحد منهم يستطيع أن يصبح إضافة إلى هؤلاء فى المرة التالية، فقط عليه أن يعطى للمهنة الصحفية ما يضيف إليها، يعطيها الفكرة المبتكرة والمعالجة المتعمقة والرصد الدقيق لقضايا الناس، هؤلاء الناس هم الرأى العام، والرأى العام يريد أن يحصل على الصحافة التى يستحقها.

والقيمة المالية للجوائز قفزت من 18 ألف جنيه فى السنة الأولى إلى 45 ألف جنيه فى السنة الثالثة (فى وقت كان فيه كيلو اللحم بجنيهين) -وكل جنيه ينطح جنيه- مساهمات من الصحفيين أنفسهم.. كبارهم وشبابهم، وحتى لو نحينا القيمة المالية للجوائز جانبا، حتى إذا لم تكن الجائزة سوى أن تقول للصحفى المتفوق «أحسنت» فهذا مهم، والأهمية هنا هى أنه يستمع إلى كلمة التقدير هذه فى احتفال كبير يحضره كل أجيال المهنة، من أساتذتها إلى حديثى العهد بها،. ويستمع إليها أيضا فى وجود رئيس حكومة يجىء إلى الاحتفال ضيفا على الصحفيين ولو ليوم فى السنة كسرا للمألوف من أن الصحفيين هم ضيوف على الحكومة.

وكما فى كل مطبخ صراصيره، فإن لكل مهنة نصيبها من الحشائش الضارة، وفى الصحافة مثلا هناك من يؤمنون بصحافة القارئ الواحد، وصحافة انتظار التعليمات والسير بجوار الحائط والحرص على أن تكون الصحافة جزءا من القطيع.

وأتذكر هنا نكتة شهيرة بيننا فى مرحلة مبكرة، نكتة أطلقها مصطفى أمين ذات مرة فى اجتماعه معنا كصحفيين شبان، وتقول النكتة إن قارئا ذهب إلى بائع الصحف ليقول له: اعطنى «الأهرام»، فسحب البائع نسخة من رزمة الصحف على يساره تخلو من اسم الصحيفة، ثم تناول كليشيها من على يمينه مكتوبا عليه «الأهرام» وختم به نسخة الجريدة فى يده قائلا للمشترى: تفضل.. هذه هى «الأهرام»، بعدها جاء قارئ آخر يطلب جريدة «الأخبار».. فكرر البائع نفس ما فعله متناولا من يمينه خاتما باسم «الأخبار» وختم به المساحة البيضاء المخصصة عادة لاسم الجريدة قائلا له: تفضل.. هذه هى جريدة «الأخبار»، بعدها تكررت الحكاية مع مشتر ثالث يريد جريدة «الجمهورية» فناوله البائع نسخة ثالثة بعد أن ختمها بكليشيه «الجمهورية».. وهكذا.

كان أحد أهداف «جوائز الصحافة المصرية» هو أن يسترد الصحفيون أهمية التميز والإبداع وتفرد كل صحيفة بشخصيتها الخاصة التى تتنافس بها مع الصحف الأخرى.. سباق نحو قارئ واع يستحق صحافة أفضل. وفى السنة الأولى أقبل الصحفيون على تقديم أعمالهم المنشورة إلى المسابقة بتردد وتحسب لاحتمالات المجاملة أو التحيز أو عدم التجرد. وحينما تأكدت للجميع حيادية ومهنية واستقلالية الجوائز تضاعف الإقبال فى السنة التالية ليصل إلى ذروة أعلى وأعلى فى السنة الثالثة بما أوقعنا فى الحرج حينما وجدنا رؤساء تحرير يتقدمون إلى المسابقة بأعمال نشروها لأنفسهم كما ذكرت من قبل.

ولم تكن صراصير المطبخ لترضى بالوجه النظيف المستجد فبدأ هجومهم المضاد.. باستحياء فى البداية ثم برغبة فى تعديل مسار الجوائز جذريا فى مرحلة تالية، من ذلك مثلا ما جرى ليلة العشاء الذى دعانا إليه الدكتور على لطفى كرئيس لمجلس الشورى والمجلس الأعلى للصحافة، وهو ما اختلف عن احتفالنا نحن بطغيان أصحاب المناصب الصحفية عليه، وبعضهم اشتهر عنه داخل المهنة العمل ليل نهار على خنق المواهب الصحفية.

ففى اتجاهنا إلى سياراتنا منصرفين من العشاء كنت أكرر امتنانى لأحمد بهاء الدين على ما فاجأنى به من جديد من مشاعر.. فرض نفسه علينا كالصاعقة رئيس إحدى المؤسسات الصحفية ليقاطعنا بتساؤلات بدأها بما يشبه العتاب قائلا لى: يا محمود أنا مستغرب.. طالما أنك فى تمويل هذه الجوائز لجأت لواحد زى (محمد حسنين هيكل).. لماذا استبعدتنى ولم تطلب منى أنا أيضا المساهمة؟

كان هذا المسئول الصحفى ينتمى إلى جيل محمد حسنين هيكل من حيث السن.. ويتقاطع معه من حيث السياسة ويغار منه من حيث الصحافة، وقد جعلتنى كلماته المباغتة تلك أرد له التحية بمثلها، فقلت له وأحمد بهاء الدين بيننا: هذه الجوائز موجودة ومستمرة منذ ثلاث سنوات، هل كنت فى انتظار مرور كل تلك المدة، وبعد أن يتأكد نجاحها سنة بعد أخرى، وأيضا فى انتظار حفل عشاء جرى بالصدفة كهذه الليلة.. لكى تطرح مثل هذه الشكوى بأننى الذى حرمتك من المساهمة فى الجوائز؟

وبانفعال إضافى قلت له: ثم إن هناك أكثر من 43 صحفيا ساهموا فى هذه الجوائز بامتداد ثلاث سنوات.. لماذا تركيزك على هيكل بالذات؟ وبصرف النظر عن عقدتك الشخصية المزمنة من هيكل.. وربنا قادر على الشفاء على أى حال.. فأنا لم أطلب مساهمات مالية من أى أحد.. هيكل أو غيره، أنا طرحت فكرة، وبدأت بنفسى لأكون أول المساهمين فيها ماليا، أما عن سؤالك فإنك تحديدا حتى لو كنت ساهمت.. كنت ستسدد المساهمة من أموال مؤسستك الصحفية، وهذا نحن كلجنة متفقون مقدما على رفضه كقاعدة عامة.. فقيمة الجوائز هى بقيمة المساهمين فيها مالا وجهدا.. وإذا كنت تفاجئنا الآن فقط بأنك كنت تنوى المساهمة بأثر رجعى.. فهذا خير.. وربنا نجانا منه..!

بينما انطلق أحمد بهاء الدين فى ضحكة مجلجلة.. لم يحاول صاحبنا المحترم أن يصحح شيئا مما ذكرته، لم يقل مثلا إنه كان سيساهم من ماله الخاص، كما نفعل نحن جميعا كمساهمين، وليس من أموال المؤسسة التى يمثلها، كل ما فعله هو أنه تطلع لأحمد بهاء الدين مستنجدا بقوله: سامع يا بهاء الكلام اللى زى الرصاص ده؟ وبعد كده تكتب عنه فى عامودك.. وتشبهه بـ(ونستون) تشرشل؟!

لم يعرف عن أحمد بهاء الدين غالبا الحدة فى القلم أو اللسان، لهذا فوجئت به يرد بكلمات باترة وإن صحبتها ابتسامة عريضة: الحقيقة أنا فاتنى أن أكتب عن محمود فى العامود إياه ما هو أهم، فاتنى أن أكتب إنه رغم أن أكبر وأهم الصحف العربية ترحب بمقالاته وتنشرها بانتظام.. فإنه فكر فى هذه الجوائز للصحفيين المصريين وتعب لإنجاحها، بينما هو نفسه ممنوع من الكتابة فى جريدته!

بتلك الكلمات المفحمة كان أحمد بهاء الدين يشير إلى قضيتى المستمرة منذ سنوات قبلها من قيام سلطة الإدارة بمنعى من الكتابة فى جريدتى «أخبار اليوم» فيما رأيته ليس من حقها ولا من سلطتها فلجأت إلى القضاء فى سابقة غير مألوفة بالمرة، وتقدم فى القضية لدعمى 12 من أكبر الكتاب والصحفيين بحجم جلال الدين الحمامصى وكامل زهيرى ويوسف إدريس وأحمد بهاء الدين نفسه، بغير أن أضيف أيضا تضامنا إجماعيا معى من مجلس نقابة الصحفيين برئاسة يوسف السباعى وقتها، لكن تلك حكاية أخرى.

فى اليوم التالى استعاد معى أحمد بهاء الدين تليفونيا ماجرى معلقا بقوله: هذه الكلمات المشحونة غلاّ وضغينة التى سمعناها أمس أمام سياراتنا تثلج الصدر لأنها تعبير عن غيظ من النجاح المتزايد لهذه الجوائز والتفاف الصحفيين الموهوبين حولها، لكنها من ناحية أخرى نذير بحرب شرسة قادمة على الجوائز وعلينا جميعا كمساهمين بها ومتحمسين لها.

وقلت له: هذه الحرب الخفية موجودة وأعيشها منذ طرحتها كفكرة، وسأصمد فيها قدر الجهد والطاقة.

فى تاريخ لاحق (15/12/1987) أبرزت جريدة «الجمهورية» خبرا بعنوان «إحسان عبدالقدوس يفتتح مساهمات جوائز الصحافة»، ويقول الخبر: «افتتح الكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس مساهمات المسابقة الرابعة لجوائز الصحافة المصرية والمقرر إجراؤها عن المنشور فى الصحافة المصرية خلال سنة 1987، المعروف أن إحسان عبد القدوس من مؤسسى هذه الجوائز منذ بدايتها قبل ثلاث سنوات، وهى جوائز يساهم بها بالكامل كبار الكتاب والصحفيين المصريين، المنتظر أن تناقش لجنة الجوائز قريبا قواعد المسابقة الرابعة وتبحث رفع قيمة الجوائز إلى ستين ألف جنيه، بعد أن كانت قيمتها فى سنتها الأولى لا تتجاوز 18 ألف جنيه، كما تناقش اللجنة الطلبات التى تلقتها من الصحف والمجلات العربية الكبرى للانضمام إلى جوائز الصحافة المصرية عند توسيعها لتشمل العالم العربى».

واتصل بى صلاح حافظ ليداعبنى بقوله: هو الجرس.. ضرب؟
أى جرس يا صلاح؟
جرس البدء فى التحضير للمسابقة الرابعة.. يعنى أروح بكره البنك وادفع مساهمتى المعتادة؟
طلبت منه التمهل حتى نجتمع لنناقش أولا ما تأجل وما استجد من أعمال.. ومن بين المؤجل البت فى مسألة توسيع نطاق المسابقة لتشمل الصحافة العربية مع العروض المتكررة من صحف ومجلات عربية بتقديم مساهمات مالية كبيرة للجوائز.

قال صلاح حافظ: بمناسبة المساهمات.. هل صحيح أنك سترفع قيمة الجوائز لتصبح ستين ألف جنيه؟
لم أكن أنا الذى يرغب، لكنهم زملاء لنا هم الذين استجدوا لينضموا إلى المساهمين المعتادين كل سنة، لكن صلاح حافظ نبهنى إلى ضرورة التمهل قبل القفز إلى أعلى بقيمة الجوائز، حتى لا تطغى القيمة المالية على القيمة الأدبية للجوائز ذاتها، ومن اللافت أن أحمد بهاء الدين عبر لى عن نفس المعنى بصياغة مختلفة قائلا إن زيادة القيمة المالية تعبر عن الثقة المتزايدة من المساهمين بمهنية المسابقة، وهذا جيد، لكنك كما تعرف من قبل فإن الفائز فى جوائز بوليتزر بالصحافة الأمريكية يحصل فقط على ألف دولار.

بعدها بأيام طلب اثنان من أعضاء مجلس نقابة الصحفيين أن تصبح المسابقة وجوائزها تحت إشرافهم ولا تعلن أسماء الفائزين إلا بعد مراجعة المجلس وتصديقه على النتائج، وكان هذا يعنى باختصار فرض الوصاية على جوائز لم تساهم فيها نقابة الصحفيين أصلا بجنيه واحد فى أى مرة وابتعاد الجوائز عن الحيادية والاستقلالية التى تمسكنا بها وحافظنا عليها لثلاث سنوات.

وقلت لأحمد بهاء الدين بعد تفكير طويل وعميق: إننى سأنسحب نهائيا من المسابقة وجوائزها.. متمنيا لمجلس نقابة الصحفيين التوفيق فى المسار الجديد الذى يسعى لفرضه على الجوائز، وكتبنا سويا -أحمد بهاء الدين وأنا- خطابا إلى البنك لإغلاق حساب الجوائز وتحويل ما به من مساهمات كبار الصحفيين، بمقتضى شيك وقعناه معا فى 7/11/1988 بمبلغ 2554 جنيها.

لم يكن هذا من حقى حرفيا، فالمساهمات تظل ملك أصحابها حتى ولو وضعوها تحت تصرف أحمد بهاء الدين وتصرفى، لكننى كنت متأكدا من أنهم سيتفهمون موقفنا، فقد أرهقتنى الجوائز وقتا وجهدا ومسئولية.ويكفينا أنه بامتداد ثلاث سنوات حصل الفائزون على 88 ألف جنيه زائد 2554 جنيها حولناها إلى النقابة مع إغلاق الحساب، يعنى أكثر من تسعين ألف جنيه فى ثلاث سنوات، وكلها مساهمات من 43 زميلا صحفيا، ساهموا بما أسماه أحمد بهاء الدين «أكثر الفلوس حلالا فى بر مصر».

ومع مضى مجلس نقابة الصحفيين فى المسار الجديد للجوائز وفرض الوصاية عليها، رفض جميع المساهمين من كبار الصحفيين الاستمرار فى التمويل، ولا حتى واحد فقط.. رفضوا حتى مجرد حضور الاحتفال السنوى، بما جعل المجلس يلجأ إلى المؤسسات الصحفية لتساهم كل منها بحصة من التمويل مع شروط مسبقة، إنها نفس المؤسسات التى تفسخت فى بعضها العلاقات الإنسانية والمهنية إلى درجة مروعة، وبلغ الأمر مثلا أن كتب جمال الغيطانى ذات مرة أنه رغم كونه رئيس تحرير مجلة أسبوعية.. إلا أنه لم ينجح طوال تسع سنوات فى مقابلة رئيس مؤسسته سوى مرتين.

وبالعودة إلى «جوائز الصحافة المصرية» فلم يكن هناك مفر سوى أن تستمر.. وإن يكن بمسمى آخر.. وبتمويل كامل من المؤسسات الصحفية والمجلس الأعلى للصحافة.. فتغير مضمونها وتعدلت فكرتها بالكامل.
و.. و.. و.. و.. و.. و.. و.. و.. و.. و.. و.. و.. و.. و.. و.. و.. هى (كانت) فكرة.






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة