هل تحب الذكريات؟ أنا عن نفسى لا أحب الحزين منها، ربما لأنها تذكرنى بتلك اللحظات التى خسرت فيها أبى دون أن أكون بجواره، أو بتلك الأحلام التى تطاردنى فيها وحوش ندالتى وجبنى من رؤية أبى وهو على فراش الموت، ولهذا أحسبها ألف مرة قبل أن تهل علىّ أى ذكرى سنوية لعزيز أفقدنى الموت إياه، وأهرب من كل شىء إلا المشهد الأخير الذى جمعنى معه. قبل سفره للعلاج فى واشنطن كانت لنا جلسة طويلة لم تتكرر لأن الموت دائما ما يفعلها معى ويخطف أعزاء قلبى فى غيابى.. اللعنة على أن يكرهك الموت ويضعك فى دماغه لكى يقرفك، عموما هذه السطور سرقتها من الذكريات حتى لا تكون دعوات الرحمة والمغفرة لصديقى مجرد دعوات حاف لشخص تستحق مصر أن يوجد بها الكثيرون مثله.. اقرأ السطور القادمة ومن بعدها الفاتحة إن استطعت.
آسف.. القلب الذى تحاول أن تستمع لنبضه الآن ربما يكون مرهقاً أو مصابا بمرض ما.. ضحك كثيراً وهو يردد تلك الكلمات كنوع من الإجابة عن سؤالى المعتاد: أخبارك إيه يا سيدى؟، أدركت من الإجابة أنها قصة حب فاشلة كالعادة، كنا نعلم تماما أنه لا يجيد التعامل مع النساء أو ربما النساء هى التى لم يكن يجدن التعامل معه لأنه كان أطيب وأهدى من أن يزعج أحداً أو يكرهه فرد ما.
صديقى الطيب كان يخرج من قصص حبه دائما موجوع القلب، كان مثاليا بالشكل الذى يجعله الأفضل والأقرب للجميع بلا استثناء، لا ينافق ولا يحب المنافقين، يجتهد ويحب المجتهدين لذلك كان يرى أن حياته ستكون صعبة فى ظل حكم النظام الحالى لأنه على النقيض تماما من أفكاره، ولأن الناس تتعامل مع صفاته تلك.. معاملة العبيط.
لم تكن قصة حب فاشلة لأنه أقلع عن تلك العادة، بعدما اكتشف أن المشاعر التى تملأ الأسواق الآن فاسدة، كان قلبه موجوعا بجد، قلب عليل من تلك القلوب التى اكتشف صاحبها بعد إجراء فحوصات طبية بالصدفة أنها تنبض بغير انتظام، وأنه يحتاج إلى عملية أو ما يزيد، كما يحتاج إلى معاملة خاصة، قال لى إنه لن يستطيع أن يوفرها لقلبه فى تلك الظروف.
صديقى الذى يحمل من سنين العمر «25» أصبح يحمل قلبا مريضا وغير قادر على العناية به طبقا لتعليمات الطبيب، الجزء الخاص بغرفة العمليات لا يخيفه إطلاقا، أما الجزء الخاص بالهدوء وعدم الانفعال والغضب فهو يخشاه تماما. سألنى كيف أمنع قلبى من الانقباض وهو يرى أطفالا يبحثون فى مقالب الزبالة عن إفطارهم، وكيف سيمنع قلبه من الغضب حينما يرى أولئك المرضى الغلابة وهم يقفون بجروحهم التى تنزف أو بوجوههم التى تصرخ من السرطان الذى ينهش فى أجسادهم على باب المستشفى الصغير الذى يعمل به طالبين منه الرحمة التى لا يملك منها إلا البعض البسيط، وكيف سيمنع قلبه من الانفعال حينما يرى صاحب المستشفى وهو يرفض استقبال «ميتحى» لأنه لن يدفع المعلوم، وكيف سيحافظ على هدوء قلبه العليل وهو يشاهد رئيساً مستبداً وأطفالاً يبكون لأجل آبائهم الذين سكنوا المعتقلات فقط لأنهم معارضون.. سألنى ولم أستطع أن أجيب!
كلكم تقولون عليه الآن إنه مثالى زيادة عن اللزوم، ولكنه فقط مازال يحتفظ بذلك القدر البسيط من الإنسانية التى فقدناها، ولذلك نحن نعيش بقلوبنا الصحيحة التى أغلقت شرايينها عليها، ولم تعد تهتم بأن يكون العالم من حولها أفضل، فقط تهتم بأن تؤدى وظيفتها بضخ الدم فى العروق حتى لو كان هذا الدم مصابا بفيروس «سى»، و«أيمن» صديقى يعيش بقلبه الموجوع لا يريد أن يقاوم لأنه يرى أن «اللمبة» التى كانت تنير له بمستقبل أفضل للبلد فى نهاية الطريقة.. قد انطفأت.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة