السمرى يتأمل قصيدة "براءة" للشاعر الكبير أمل دنقل
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
للعيون قاموسها الخاص ولغاتها الحية النابضة، يقف المحب بين عينى حبيبته كالمؤمن بين دفتى المحراب، يناجى، يتبتل، يدعو، يصلى، يتقبل الوحى وهو هادئ القلب مطمئن الأنفاس، والعيون كعبة العشاق ومعبدهم، حولها يطوفون، وبستائرها يتعلقون، تأملت قصيدة "براءة" للشاعر الكبير أمل دنقل الذى حلت ذكرى وفاته السادسة والعشرين مؤخرا، فعرفت أن لكل شاعر بصمته الخاصة، ولغته المتميزة، بها يصف ما يراه وما يحسه، وعلى نارها ونورها يكتب ويتأمل ويبدع، فى تلك القصيدة العذبة المدهشة العميقة الصادقة، جسد "أمل" معنى الألم الإنسانى فى المعاناة بين الروح والجسد، كما جسد حالة الحب الخالص التى تمزج هذا الصراع فى أرقى صوره وأرقها وأقساها، يقول أمل: أحس حيال عينيك بشىء داخلى يبكى/ أحس خطيئة الماضى/ تعرت بين كفيك/ وعنقوداً من التفاح فى عينين خضراوين/ أأنسى رحلة الآثام فى عينين فردوسين/ وحتى أين/ تعذبنى خطيئاتى..بعيدا عن مواعيدك/ وتحرقنى اشتهاءاتى.. قريبا من عناقيدك/ فى صدرى صبى أحمر الأظفار والماضى/ يخطط فى تراب الروح/ فى أنقاض أنقاضى/ وأنظر نحو عينيك/ فترعشنى طهارة حب/ وتغرقنى اختلاجة هدب/ وألمح من خلال الموج وجه الرب/ يؤنبنى على نيران أنفاسى يقلبنى/ وأطرق... والصراع المر فى جوفى يعذبنى!!".
بين عينى الحبيبة، ابتهل "أمل" مشدوها حائرا، مأخوذا بجمال فتنتها البليغة الموحية، وبروعة إحساسه المستعر المحموم، بين القداسة التى تمنحها تلك العيون الأسطورية الشكل والتأثير، وشعوره بالعجز عن التخلى من بشريته المليئة بالخطيئة والآثام، وفى آخر القصيدة نادى أمل حبيبته صارخا: فيا ذات العيون الخضر/ دعى عينيك مغمضتين فوق السر/ لأصبح حر" لتظل أنثاه الفاتنة هى المعذبة، والمانحة، والمفجرة للآلام، والمخلصة منها.
لم يجد "دنقل" إلا البكاء ليعبر به عما يجول بخاطره كلما نظر إلى عينى حبيبته، والبكاء هنا ليس دليلا على التطهر والإخلاص والهيام فحسب، لكنه دليل على العجز وعدم القدرة على الفعل أو الكلام والوصف، وفى وصفه للعجز بهذه الدرجة من النقاء والصفاء والتأثير "إعجاز" حقيقى، فشاعر بحجم موهبة "أمل" وضخامتها مؤهل بالطبع لأن يجعل العجز حالة شعرية ملفتة وآسره، لكن يظل معنى البكاء وسببه غائما ومجهولا وحبيسا فى داخله كلما وقف بين هاتين العينين الساحرتين.
حضور الأنثى فى الديوان الأول لـ"دنقل" "مقتل القمر" كثيف ومتنوع وعميق، يقلب تجربته العاطفية على جميع أشكالها وصورها، ومراحلها المتباينة، ليقدم لنا التجربة مكتملة، ففى قصيدة "مطر" يصف الحب كما لو كان أحد ظواهر الطبيعة مازجا بينه وبين تقلبات الفصول والمواسم، قائلا: "وينزل المطر/ ويغسل الشجر/ويثقل الغصون الخضراء بالثمر/ ينكشف النسيان/ عن قصص الحنان/ عن ذكريات حب ضيعه الزمان"، ويختمها قائلا "وينزل المطر، ويرحل المطر والقلب يا حبيبتى مازال ينتظر"، وفى قصيدة "يا وجهها" يقول: فى الليل افتقدك/ فتضىء لى قسماتك النشوى/ تأتى خجول البوح مزهوا/ وأحس فى وجهى لظى الأنفاس حين يلفنى رغدك/ وأنام تحملنى رؤاك لنجمة قصوى/ نترفق الخطوا/ نحكى، فأرشف همسك الرخوا/ ويهزنى صوتك/ لكن بلا جدوى.. بلا جدوى"، وهكذا يعرض "دنقل" تجربته فى الحب الصافى التلقائى العفوى، ويقلبها على جميع وجوهها وأحوالها. وفى دواوينه اللاحقة يخفت حضور المرأة شيئا فشيئا، تحت ضغط الأحداث السياسية والاجتماعية التى وقعت فى 1967، إلا أنه لا ينسحب تماما، ففى أوج الأزمات السياسية التى يعتبر أمل من أبلغ من عبروا عنها؛ تبرز المرأة التى تحفظ الذكرى، وتضمن الخلود، يقول أمل "اذكرينى/ فقد لوثتنى العناوين فى الصحف الخائنة/ لونتنى.. لأنى منذ الهزيمة لا لون لى غير لون الضياع/ قبلها كنت أقرأ فى صفحة الرمل.. والرمل أصبح أبسطة تحت أقدام جيش الدفاع".
فى آخر دواوينه "أوراق الغرفة 8" وصل أمل إلى حالة الصفاء الروحى التى تمكنه من تأمل ذاته وقراءتها، وتأمل عالمه وتشريحه، إلا أنه على طول تجربته الإبداعية وثرائها لم يخبرنا عن مصير هذا البكاء الصادق الحبيس الذى كان يشعر به تجاه عينى حبيبته، وبيت بعد بيت، وقصيدة بعد قصيدة، وديوان بعد ديوان، تقطر تجربة "أمل" الشعرية حزنا وألما وتوجعا، وكأنه يريد أن يقول إن كل أشعاره التى كتبها بعد "براءة" ما هى إلا "الشىء" الذى كان يبكى داخله فى هذه القصيدة، إنه الشعر إذن، إنه الشعر الجسور الذى ملأ الدنيا وشغل الناس، ومن سواه يقدر على أن يقف الشاعر عاجزا أمامه باكيا فى محرابه؟
مشاركة