لم أتخيل لحظة واحدة عندما أعلنت رأيى فى شخصية عمرو بن العاص كشخص له دور مؤثر بل ومحورى فى التاريخ المصرى أن يتسبب فى هذا الجدال الطائفى البغيض، فالمفروض أننا نتناقش بمحبة وحرية ونرد على الكلمة بالكلمة المهذبة، فإذا كان عمرو بن العاص أحد الصحابة بالنسبة للمسلمين فهو أيضاً أحد الذين غيروا تاريخ مصر بالنسبة للمسيحيين، وبما أننا كلنا مصريون، لذا كان يجب أن نتفهم الموقف كمصريين، لأننا نتكلم عن شخصية أثرت فى التاريخ المصرى عموماً، ويقول كل منا رأيه بدون مغالطة، لا لنصرة دين على آخر فقط، بل ولا يجب أن يكون لذلك علاقة بالدين لأنه شأن تاريخى بالدرجة الأولى، وقبل أن أكمل كلامى، وحتى لا يفهم البعض ما أقوله خطأ، يجب أن نضع فى الاعتبار أن التاريخ كله هو تاريخ فرض فيه القوى شروطه على الضعيف كما يحدث الآن من الدول الكبرى التى تحاول فرض إرادتها لتحقيق مصالحها بالقوة مع استخدام الدبلوماسية والسياسة والاقتصاد، وقد حكم مصر عبر تاريخها، خاصة فى الـ600 سنة السابقة للميلاد، البابليون والفرس واليونان والرومان ثم الدول الإسلامية المختلفة، كالعباسية والفاطمية.. إلخ ثم العثمانيون بل والمماليك الذين جلبوا على مصر كعبيد، حتى أسرة محمد على، ثم الإنجليز الذين حكموا من خلال أسرة محمد على والأحزاب، ولم يحكم مصر خلال هذا التاريخ إلا عدد قليل من المصريين، سواء قبل الإسلام أو بعد الإسلام، بل ولم يحكمها فى الفترة القبطية مصرى واحد، ففى هذه الحقبة القبطية كانت مصر جزءا من الإمبراطورية الرومانية، ولولا الخلافات العقيدية والانشقاق الذى حدث فى مجمع خلقيديونية (451م) لسارت الأمور طبيعية بحسب الظرف السياسى وقتئذ، مثلما سارت الأمور فى الدولة الإسلامية وكان الكل خاضعا لإمبراطور مسيحى كما أصبح الكل خاضعا لخليفة واحد فى الدولة الإسلامية.
ولكن مع الانشقاق واختلاف المذهب فى مصر عن الإمبراطورية الرومانية ووضع بطريرك مخالف لعقيدة المصريين لما صار الرومان خصوما للمصريين بل لكانوا قد عاشوا معهم كإمبراطورية واحدة، وقد حدث ما حدث وجاء عمرو بن العاص وتغير تاريخ مصر وانتماؤها، فلم يكن الأقباط فى حالة مصالحة أو قبول للإمبراطورية الرومانية، وقد صاروا فى وضع جديد، لا هم تابعون للإمبراطور الرومانى المسيحى الذى يفرض عليهم مذهبا غير مذهبهم، ولا يقدرون أن يقفوا فى مواجهة الحاكم الجديد، فقد كان الجيش الرومانى هو جيش كل الإمبراطورية الرومانية، أما مصر فلم يترك لها جيش من أبنائها، وكانت المفاوضات بين القادم الجديد لا تتم مع المصريين بل مع الرومان أصحاب الجيش، أما المصريون (الأقباط) فقد كانوا يتحملون نتائج المعارك الحربية وغيرها، وحدث ما حدث وصار كل شىء تاريخا بحلوه ومره، وليس لنا إلا أن نقرأه ونأخذ منه العبرة ولكن لا نستطيع بل ويستحيل أن نغيره.
وقد مرت كل الدول تقريبا بما مرت به مصر فى الشرق والغرب وفى الشمال والجنوب وفى الأمريكتين وأستراليا، وصارت هناك أمور وأوضاع واقعية من المستحيل تغييرها بل ويستحيل ذلك، لأن هذا معناه هلاك العالم ودماره، فلو طالب كل من كانت له الأقدمية فى بلد أن تعود له هذه الأقدمية بالقوة أو بغيرها لانقسم أهل كل دولة على بعضها، ولصارت هناك حروب طائفية وقبلية وعرقية ودينية لن تنتهى إلا بدمار العالم، ومن هنا يستحيل أن يفكر الأقباط فى طرد المسلمين لأنهم كلهم، حتى ولو كان فى بعضهم عرق من جهة أخرى، مصريون وأجدادهم وأخوالهم وأعمامهم مصريون، بل هم أقباط مسلمو الديانة، فإلى أين يذهبون ولا يمكن أن يتركوا ديانتهم بالقوة ويعودوا لديانة أجدادهم لأن هذا مستحيل، ومن المستحيل أن يترك الأقباط مصر لأنها بلدهم وموطنهم ولا مكان لهم غيرها، وهم فى الأصل مصريون اعتنقوا المسيحية وبالكرازة والتبشير ولم تفرض عليهم وتحملوا فى سبيلها الاضطهادات والعذابات وسفك الدماء، أما من هاجروا من الأقباط فقد هاجر أكثر منهم من المسلمين، فالبعض يهاجر لتغيير مستوى معيشته ولكن ليس الكل، وبالتالى من ينادون بعودة الأندلس إلى الحكم الإسلامى بالقوة أو بغيرها غير واقعيين، لأن أزمنة القوة ولت ولم يعد لها وجود، فقط التاريخ نأخذ منه عبرة.
لذا لم أتوقع مطلقا أن يكون رأيى سببا فى مثل هذا الجدال الطائفى البغيض والمبارزة بل والمناظرات الدينية وتحول الموضوع إلى مجرى غير مجراه. وبمراجعتى للتعليقات من الجانبين شكرت الله أن معظم هذه التعليقات لا تعبر عن المصريين سواء أكانوا أقباطا أم مسلمين لأنها فى معظمها صادرة عن عدد قليل من أشخاص معروفين فى تواجدهم على النت، فهم فى معظمهم من غرف ومواقع ومنتديات معروفة بالتعصب البغيض وتقضى يومها كله وعلى مدى 24 ساعة فى السب والتجريح وسب الأديان وتجريح رجال الدين ولا تعرف للتسامح معنى، ولا للحوار المهذب طريقا، لاحظوا أسلوب تعليقاتهم وتجريحهم وطريقة كلامهم وعدم مراعاتهم لشعور الآخر, عموماً هؤلاء قلة لا يمثلون إلا أقل من واحد فى المائة ألف فى كلا الجانبين.
وقد صدرت الجريدة وقرأها الآلاف وقد اتصل بى البعض ومعظهم تحدثوا بنفس الأسلوب الذى كتبوا به تعليقاتهم، بل إن بعضهم من الذين كتبوا هذه التعليقات فعرفت أن الذين يحولون الأمور إلى نقيضها هم قلة قليلة جداً لا تكاد تذكر.
وأخيراً أقول إن التاريخ نقرؤه للعبرة لا لنغيره لأنه من المستحيل أن يتغير، وندعو الله أن يحمى مصر من الذين يحولون كل شىء إلى نقيضه، لأنهم لا يعبرون عن كل المسلمين، ولا كل المسيحيين فمعظمهم، كما قلت، من غرف ومنتديات دينية قليلة العدد لا يشعر بها إلا من اعتادوا عليها وهم لا يمثلون إلا أقل من واحد من كل مائة ألف من المصريين.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة