كتب الأستاذ فهمى هويدى فى «الشروق» مقالاً عنوانُه «شكرٌ آخرُ لأوباما»، يشكره فيه على أنْ مكّننا أن نرى القاهرة نظيفةً ولو ليومٍ أو بعضِ يوم. وحكى أنه قبل سنوات كان فى طريقه إلى مدينة حلوان، فلاحظ أمرًا عجيبًا: أن طريقَ الذهاب، وحدَه، مرصوفٌ ونظيف، فيما طريقُ العودة مُهمَلٌ، شأنَ معظم طرق مصر! طلبَ تفسيرًا للّغز، فأخبروه أن الرئيس ذهب إلى حلوان بالسيارة، فقام بتمهيد الطريقِ من يُمهدون الطريقَ لمن يستحقون أن يُمهَد لهم الطريقُ، بينما عاد الرئيسُ من حلوان إلى القاهرة بالطائرة، فتُركَ طريقُ العودةِ على حاله!
ذكرتنى تلك القصةُ بحكاية فولكلورية نعرفها جميعًا.
تقول الحكايةُ إن سلطانًا من العهد القديم قرّرَ أن يخرجَ فى جولة بمدينته. وكان الناسُ وقتها يسيرون حفاةً، والطرق لم تعرف التعبيد بعد. فتشققت قدمُ السلطان من حصوات الطريق ورماله، ومن سخونة الأرض التى تعكس حرارةَ الشمس اللاهبة. فقال أحد الوزراء: سآمرُ العمّالَ بفَرش الطريق، التى ينوى أن يمشى عليها جلالةُ السلطانُ، بِبُسُطٍ من الجِلْد الناعم حتى لا تتأذى قدماه. وقال أحدُ العلماء من الحاشية: بدلاً من هذه الكُلفة، لماذا لا نصنع قطعتى جلد صغيرتين ونثبتهما فى قدمىْ مولاى وهو يمشى؟ وكانت تلك بداية اختراع الخُفِّ ومن ثَم الحذاء.
وأنا بعدُ طفلةٌ صغيرة، حكى لى أبى عن المعتقلات وغُرف التعذيب التى فُتحَت فى عهد عبد الناصر، وغُلّقت على المثقفين والشيوعيين والوطنيين، الذين أحبوّا عبد الناصر ذاتَه حبًّا لا مزيدَ عليه! كنتُ أسألُه ببراءة: «بابا جمال يعرف هذا؟» فيجيبنى: «طبعًا لا يعرف، الفسادُ ليس فى الحاكم، بل دائمًا فى حاشية الحاكم. لو عرف لهدم السجون على رءوس السجّانين!» ولمّا كبرتُ سألتُ محمود أمين العالم، المفكر الكبير، وأحد أشدِّ مُحبىّ عبد الناصر، السؤالَ ذاتَه بالبراءةِ ذاتِها: «هل كان ناصر يعرفُ أنكَ وشُهدى عطية وفتحى عبد الفتاح وإبراهيم الشريف وعبد العظيم أنيس وسواكم تُجلَدون وتُقَتَّلون؟» فيجيبُنى دون أدنى تردد: «أبدًا، أبدًا، مستحيل!».
والآن، أسألُ بالبراءة ذاتِها: هل من المحتمل أن يكون الرئيس مبارك على غير عِلمٍ بحال الطُرق قبل، وأثناء، وبعد، مروره عليها؟ أَمِنْ غير المحتمل أن يظنَّ الرئيس أن طرق مصر بالنظافة التى يراها فى جولاته؟ يهاتفنى صديقى الآن ويخبرنى أن الرئيس قال فى خطبةٍ: «طيب وماذا فى أنهم يرصفون الطريق لأن مسئولا سيمرّ؟ أليس فى هذا نفعٌ للناس؟ المهم أن الطريقَ قد رُصِفت!» وأجيبُ السيد الرئيس بأن عليه إذًا، أولاً، أن يمرَّ فى شوارع مصرَ جميعها وحواريها حتى تُرصف، ثم، ثانيًا، يعاودُ المرورَ بعد شهر، فجأةً دون أن يخبر أحدًا، لأنه سيكتشف أن الرصفَ لم يكن رصفًا بل تلوينٌ سطحىٌّ بطبقة قارٍ خفيفة لا تصمدُ إلا فترةَ المرور، بينما الرصف الدائمُ طبقاتٌ فوق طبقاتٍ تقاومُ عواملَ التعرية واحتكاك أطُر السيارات. ثم سأحكى له قصةً حكاها لى أحد قاطنى مدينة «بنها» التى زارتها السيدة سوزان مبارك قبل عامين. قال إنهم رصفوا شارع «فريد ندا» (الطريق السريع القديم) الذى سيمرُّ به موكبُها، وطلوا، بالأبيض، الأبنيةَ التى ستقعُ عليها عيناها أثناء رحلتها. حتى أنهم لم يطلوا أربعة واجهات البنايات، بل الواجهتين اللتين ستبينان لها، وفقط! أليس هذا مُهينًا لنا كمصريين؟ ألا نستحقُ من وزارتىْ البيئة والمرافق احترامًا يليقُ بنا، نحن أبناء أعرق حضارات الأرض؟.
سيدى الرئيس، إن ستة ملايين موظف ممن تُخصَم منهم الضرائبُ رأسًا من المنبع هم مَن يقطنون الأحياءَ الفقيرة والعشوائيات، وهم أحقُّ الناس بأن تُمهَد لهم الطرقُ وتُطلى لهم البناياتُ، لأنهم دفعوا ثمن هذه الإصلاحات مقدّمًا؛ ليس من أموالهم التى فى جيوبهم، بل دفعوها حتى قبل أن تصلَ أموالُهم جيوبَهم.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة