يسرى فودة

إذا كنا نريد حقاً أن نغير ما بأنفسنا

مطلوب قانون واضح ضد الفهلوة

الخميس، 02 يوليو 2009 10:01 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
إذا لم يكن لديك كثير من الوقت، وتريد فى الوقت نفسه أن تفهم سريعاً ثقافة بلد تزوره لأول مرة، فانظر إلى أمرين: الإعلانات التجارية وصفحة الحوادث. الإعلانات لأنها تريد بلا شك أن تبيع، ومن ثم يبذل منتجوها أقصى جهدهم لفهم الناس، ما يؤدى إلى تحديد مداخل «الهجوم» على جيوبهم. وصفحة الحوادث لأنها على اختلاف أنواع الجرائم، معيار دقيق لمبدأ «يا روح ما بعدك روح». وما يجعل المرء يشعر بالخجل إزاء واقع الأمر فى العالم العربى، أن معظم إعلاناتنا لا يزال يرى فى «نزعة الجنس» باباً واقعياً للبيع بغض النظر عن المنتَج، وأن صفحات الحوادث لا تزال تمتلئ بجرائم النصب والاحتيال والفهلوة. هل نحن بهذه القذارة؟ إذا افترضنا خطأً أن نزعة الجنس موضوع تافه، فإنه لا يضارع تفاهةَ هذا الموضوع إلا خطورةُ الموضوع الثانى.

مهما سافرت لن تجد شعباً يحب بلده، ويؤلف فيه أشعاراً، ويغنى له مثلما هو الحال مع مصر، حتى وهى تقسو عليهم. ومهما قابلت لن تجد أحداً فى العالم، إلا وهو يمدح طيبة قلب المصريين ودفء مشاعرهم ورغبتهم الصادقة دائماً فى المساعدة، حتى وهم لا يعلمون.

ومهما قرأت فى التاريخ فلن تجد أرضاً التفت إليها العابرون فاجتذبتهم - لوجه الله أو لوجه المصلحة - مثلما استطاعت مصر، من القوى الاستعمارية إلى الرحالة إلى المستشرقين إلى المضطهدين إلى أولياء الله والصالحين. حتى الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، مات وهو ينصح صحابته بالحصول عليها، وحتى أوباما اختارها كى يخاطب المسلمين جميعاً منها، وحتى ماكدونالدز لم يهنأ له بال إلا حين فتح فرعاً له فيها.

إلى هنا ينبغى أن نتوقف عن مديح الذات. ففى أنفسنا شىء يأتى فى نهاية اليوم كى يفسد كل ما لدينا من مزايا حسنة ومن خصال جميلة، وهو ما أصبحنا نشير إليه فى صورة عامة بكلمة «الفهلوة». آخرون يستخدمون كلمات مثل «الحداقة» (حاذق فى القاموس يعنى ماهر)، أو «الشطارة» (من قدرة المرء على شطر الشئ إلى نصفين فى خفة)، أو «الافتكاسة» (من الفعل الإنجليزى Fix الذى يعنى القدرة على إصلاح الشىء). وآخرون، مثل صلاح جاهين، يستخدمون كلمات أخرى لوصف هذه الحالة، من مثل «علم اللوَع»: علم اللوَع أضخم كتاب فى الأرض/ بس اللى يغلط فيه يجيبه الأرض/ أما الصراحة فأمرها ساهل/ لكن لا تجلب المال ولا تصون العرض.

وحتى لا يتجنى بعض المتفهلوين على الرجل، من الواضح أن جاهين اتخذ مدخلاً ساخراً ينحاز من خلاله إلى من نصفهم سلبياً بـ «المغلوبين على أمرهم» أمام من نراهم «ظالمين».

لقد وصفنا فيلسوفنا الراحل لويس عوض بأننا «متطرفون فى اعتدالنا»، وهى قيمة تجذب الآخرين إلينا من النادر أن يجدوها فى أى مكان آخر وتشجع الطامعين فى السلطة على البقاء فيها وعلى الفرعنة. وفى اعتقادنا أن أحد أوجه العبقرية فى هذا البلد أن مصر لم تكن يوماً للمصريين، وأنها تمنح نفسها بصورة أيسر للخواجات (هؤلاء الذين لم تلدهم) ولأنصاف الخواجات (هؤلاء الذين عادوا إليها). لهذه القيمة فى حد ذاتها وجه سلبى يقسو على ابن البلد، لكنّ لها فى الوقت نفسه وجهاً إيجابياً، ساهم عبر العصور فى إثراء البوتقة المصرية حتى صار من الصعب العثور على تعريف دقيق لكلمة «مصرى».

أتاح لى غيابى عنها أن أراها بعيون طازجة بعد ستة عشر عاماً من «الغربة»، مثلما أتاح لها هى أن ترانى بعيون مختلفة. فجأةً أصبحت «أكثر احتراماً» وأنا لا أدرى لماذا، ولا يسعك مع هذا سوى أن تشعر بالخجل أحياناً، خاصةً وأنت تعلم أن فيها من الموهوبين ومن الكادحين ومن المخلصين من يستحقون من الاحترام معنوياً ومادياً ما هو أكثر من هذا بكثير. تتساءل أحياناً لماذا يشتهر المصريون بين شعوب العالم قاطبةً بالنكتة وروح الدعابة فلا تجد تفسيراً أقوى من أنها حيلة بارعة، وإن كانت سلبية وضارة فى معظم الأحيان، للمشاركة السياسية والإسهام المدنى فى ظل غياب قنوات شرعية حقيقية.

ثم تستمع إلى أصدقائك الزائرين من الخواجات يتساءلون لماذا «لا ينتهى» أى شئ فى مصر، ولماذا بيوت المصريين نظيفة من الداخل قبيحة من الخارج. ولا تجد تفسيراً لذلك أقوى من أن إرثاً ثقيلاً من الشك والشك المضاد بين الحاكم والمحكوم، جعل هذا الأخير يغلق الباب على نفسه، معتبراً أن «ما وراء الباب فهو لى» وأن ما دون عتبة المنزل فهو لـ«الحكومة». إنها «الآخر» الذى يترصد. فبينما يرى خلق الله جميعاً فى شوارعهم شرطياً فيشعرون بالأمان، نراه نحن فى مصر فيركبنا ألف عفريت. وكلما أتيحت لنا فرصة نتحد معاً ضد «الحكومة» فيمتلئ الطريق السريع بالفلاشات بين سائقين لا يعرف بعضهم بعضاً تحذيراً من الرادار، لأن «الحكومة» فشلت فى إقناع المواطن بأن الرادار فى الواقع لمصلحته هو لا لمصلحتها هى. وهذا مثال واحد من بين أمثلة لا حصر لها.

ترسخ إذن لدى المصريين عبر العصور إحساس جمعى بأن القوانين تسنها «الحكومة» خدمةً لنفسها وترصداً للمواطن. ونتيجةً لهذا بدأ المواطن يشعر بأن من «واجبه» تجاه نفسه وتجاه أهله وتجاه بلده فى مواجهة «الحكومة» أن يكسر القانون، كلما أتيحت له فرصة. ومن ثم بدأت تتكون ثقافة قوامها أن العبيط فقط والضعيف هو الذى يضطر إلى احترام القانون، وأن الفهلوى والقوى هو فقط الذى يستطيع أن يكسر القانون دون أن يمسكه أحد. غير أن ثمة فارقاً بين أن تكسر القانون من ناحية وأن تكسر القانون وتكون فخوراً بذلك من ناحية أخرى، وتلك هى مصيبة مصر اليوم.

نلوم المواطن؟ نعم، لكننا لا نلومه قبل أن نلوم «الحكومة». ذلك أن المواطن لا يتحرك فى ابتكاره أساليب فهلوية من منطلق شرير بل إنه فى معظم الأحيان ينطلق من مجرد غريزة البقاء. ولن يكون لدينا أمل فى أن يبدأ الحال فى التغير إلا إذا بدأت «الحكومة» فى التعامل مع أمرين على وجه التحديد: أولاً، التصدى لغياب الإحساس بالعدالة فى المجتمع المصرى قبل أن يصل السوس إلى قاع نخاعه الشوكى؛ وثانياً التصدى لممارسة الدولة نفسها أساليب الفهلوة فى مواجهة المواطن قبل أن يحق لها أن تلومه حين يأتى هو بها.

عندئذٍ، وعندئذٍ فقط، يمكن أن نبدأ فى الالتفات إلى المادة 163 من القانون المدنى التى يشير مؤداها إلى أن كل خطأ يتسبب فى ضرر الغير يلزم بالتعويض سواءٌ كان خطأً جسيماً أو خطأً يسيراً. هذه فى رأى القانونى نجاد البرعى أقرب مادة لدينا للتعامل مع أمور الفهلوة.

ومن الواضح أنها فى حاجة ماسة إلى التطعيم وإلى التوضيح وإلى التفصيل. كما أن من الواضح أنها، كغيرها من مواد القانون، تستلزم وعياً من المواطن بحقوقه، يؤهله لإثبات الواقعة فى حالات معظمها بطبيعته البحتة مطاط، ناهيك عن استعداد شجاع لاتخاذ المبادرة فى وجه ممثلى «الحكومة» العدو.

من مصلحة «الحكومة» أن يتوقف المواطن عن اعتبارها خصماً؛ فحكومة لا تحظى برضا شعبها حكومة دائماً فى مهب الريح، ومن مصلحة المواطن أن يشعر بالخجل حين «يضطر» إلى كسر القانون؛ فما تأخذه اليوم بالفهلوة دون حق، يمكن أن يؤخذ أضعافه منك غداً دون عقاب. غير أن الممارسة على أرض الواقع أثبتت أيضاً أن مشكلتنا لا تكمن أساساً فى النظرية بقدر ما تكمن فى التطبيق. وآخر ما يمكن أن نتمناه هنا هو قانون يبقى حبراً على ورق أو أسوأ من هذا قانون لا يُطبق بأمانة وبإنصاف على الجميع، أو كما كان يحلو للسادات أن يقول -: «كله بالقانون».

لمعلوماتك...
4 يونيو 2009 وجه الرئيس الأمريكى أوباما خطابه للعالم الإسلامى من القاهرة








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة