الآن، فى جميع مطارات أوروبا لافتةٌ تقول: «مَن يرى مُدخِّنًا ولا يُبلغ عنه سلطات المطار، يُجرَّمُ بدفع غرامة قيمتها خمسون يورو!» يعنى ليس فقط مَن يُدخِّن سوف يدفع غرامة، بل مَن يراه، ولا يُبلِغُ، يُعتبَرُ مُشاركًا فى جُرْم تلويث البيئة وإتلاف رئات خلق الله.
قرأتُ اللافتةَ، ولويتُ شفتى بامتعاض، ثم أشحتُ عنها بوجهى بتعالٍ وأنا أقول لنفسى: طبعًا، فهُم لا يعرفون الآية الكريمة: «والفتنةُ أشدُّ من القتل».
فى المدرسة زمان، كانت المعلّمةُ تقول هذه العبارة للتلميذ الذى جاءها ليشى بزميله الذى ترك صنبورَ المياه مفتوحًا فأغرق الفناء، أو ذاك الذى أوقع زميلته من الأرجوحة فاتسخ ماريولها. لم تُفهمنا المعلمةُ وقتَها أن «الفتنة» لا تعنى «الوشاية بالآخر»، بل معناها الشركُ بالله وإفشاء الفتنة فى الأرض، لم تخبرنا المعلمةُ بذلك ليس لأنها قبطيةٌ لم تقرأ القرآن، بل لأن هذا هو المفهومُ القارُّ فى الأذهان عن مفهوم «الفتنة»، حتى بين معظم المسلمين.
لذلك كبرنا على مفهوم «التستّر على الخطأ» و«التواطؤ مع المُخطئ». فانتشرَ ما انتشر فى مجتمعاتنا من مفاسد فى السلوك وفى القول. بل والأدهى من ذلك، ربما نبتسمُ فى وجه المخطئ، مُعلنين له فى صمتٍ: إنّا معكَ متواطئون، فلا تخشَ شيئًا!.
إن أنتَ شاهدتَ شيخًا مهيبًا بلحيةٍ يفتحُ نافذةَ سيارته المكيّفة، ليلقىَ فى الطريق الدائرىّ كيسًا مملوءًا قمامةً، لن تعير الأمر التفاتًا.
ولو كنتَ حريصًا على نظافة بلدك، فأقصى ما ستفعله هو أن تمتعضَ، ثم تلتفتُ إلى ابنك الجالس جوارك فى سيارتك وتقول: «شوف عمو عمل تصرف وحش، ميصحش نرمى حاجة فى الشارع!» أما لو أخذتكَ الحِمية، مثلى، وأسرعتَ وراء الشيخ فكسرت عليه بسيارتكَ لتجبره على الوقوف، ثم تجاهلتَ نظرةَ الاندهاش فى عينيه الورعتين، وعاتبته برفق، بعدما لمستَ سيماء التقوى فى عينيه، قائلاً: «ليه يا حاج نرمى المخلفات فى الشارع، مش لازم نكون قدوةً حسنةً للآخرين؟» فسوف تجد عينيه تزدادان اندهاشًا، ثم تضيقان ببطء، قبل أن ينهركَ بكلمتين فى جنابك، تتعلم بعدها ألا تتدخّل فى شؤون غيرك! وكأن الشارع ونظافته ليس شأنى وشأنكَ وشأن كل مواطن فى هذا البلد الأمين! وكأن النظافةَ ليست من الإيمان! وكأن الإيمانَ هو قيامُ الليل وتلاوةُ القرآن وتحجيبُ البنات، ثم إفسادٌ فى الأرض!
بعدما تسمع تلك الكلمة النابية، وتشاهد هذه النظرة القاسية، سوف تتعلّم، مثل كل المصريين الراهنين، سياسةَ التواطؤ. التواطؤُ على الخطأ. فإن كانت الثورة على الخطأ مُنْجِّيةً، فالتواطؤُ عليه أنجى وأنجى.
يصل الأمرُ مداه الأقصى والأقسى والأزفت، حينما تشاهد بأم عينك أحدهم يمدُّ يدَه فى جيب رفيقه فى أتوبيس مزدحم، فتغضّ طرفَك. وحين تشاهد شرطيًّا يصفع طفلاً، فتصمت، وحينما تشاهد شلّةً من الفتيان الشُّطار وقد أمسكوا بفتاةٍ يتحرشون بها، فتسرع الخطو مبتعدًا وأنت تدعو لبناتك بالستر.
هو ذاته ما حدث للفتاة فى روكسى حينما أمسك سائقٌ حقير بنهديها، على مرأى ومسمع من المارة فى وضح نهار الظهيرة، فاكتفوا بالنظر والفرجة. وحينما ركضت البنتُ ثائرةً على كرامتها وراء الجانى لتمسك به وتقدّمه للعدالة، التفوا حولها ينصحونها بالصمت الجميل، ثم يلومونها إنها السبب كونها لا تضعُ الحجاب!!
ثقافةُ التواطؤ هذه ليست، وحسب، بسبب انخفاض وعينا بحقوقنا، لكنها نتاجُ ممارساتٍ إيجابية صنعناها مرّةً، فقوبلت بالتهكّم والسخرية، فتعلمنا، بعد ذلك، بالتراكم أن نضع ألسننا فى أفواهنا ونخرس. أعرفُ شابًّا ذهب إلى قسم البوليس يشكو جارًا له يدير شقته فى أمور الرذيلة، فما كان من المأمور إلا أن نظر مليًّا إلى الشاب، وابتسامةٌ عريضة فوق شفتيه، قائلاً: وإنت بقا متغاظ إنك مش عارف تعمل زيه؟.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة