أولا لأسباب أخلاقية، فلا يجوز ولا يليق أن يتبادل الناس الشتائم فى أى صراع من أى نوع، فبحكم كونها شتائم، فهى تنتهك الجوانب الشخصية التى لا علاقة لها بالرأى أو السياسة أو أى شىء، فالهدف منها هو إيلام الطرف الثانى وإهانته، ومن الطبيعى أن تجرحه وتوجعه، وتترك دون شك مرارات وندوبا فى القلوب، لا تزول مع الأيام، وتؤدى إلى عداء، ولا حل لها إلا أن توجع خصمك بذات الطريقة، تهينه وتجرحه حتى ترتاح عندما تتأكد أنك أخذت بثأرك.
إنها معركة كل الأطراف فيها خاسرة، لا يوجد فائز، ناهيك عن أنها دليل ضعف، فالقوى هو الذى بنى بصبر وجهة نظره، لا يمكنه أن يهدرها «بشتمه» هنا أو هناك، فهو يريد كسب أطراف معه، يريد تسويق أفكاره حتى يجد لها مناصرين جددا، يدافعون عنها ويمكنه الوصول إلى أهدافه السياسية أو الفكرية.
صديقى الصحفى اللامع خالد محمود الذى يعمل الآن فى الإمارات، كان يقول ساخراً «هضرب نفسى بالجزمة لو ظبطت نفسى بقول نفس الكلام السنة الجاية»، كنا نضحك، ولكن المعنى العميق فيما يقوله خالد أن التغيير سنة الحياة، فلا يمكن أن تستحم فى ذات النهر مرتين كما قال أرسطو، والقوة الحقيقية فى تطوير الأفكار وليس تحنيطها، فأحد أهداف أى صراع سياسى، هو تلقيح أفكارك بانتقادات الآخرين حتى تستطيع كسب أرض جديدة من خصمك، هذا ما فعله النظام الرأسمالى فى الغرب، فقد طور نفسه ومستفيداً من الأفكار الماركسية التى كان يؤمن بها المعسكر الاشتراكى بقيادة الاتحاد السوفيتى السابق، فى حين أن خصومه انهاروا لأنهم حنطوا أفكارهم، قدسوها فانهارت فوق رؤوسهم.
أحد أسباب ظاهرة الشتائم والردح أن أصحاب الخطاب السياسى يعرفون أنهم غير قادرين على تسويق أفكارهم، وكسب الناس حولها، فيتمسكون بها أكثر، ويؤمنون أنها حق مطلق لا يأتيها الباطل، ولأنهم يدافعون عنها باستماتة فهم أقوياء، وخاصة إذا كانت أفكارهم فى مواجهة سلطة غاشمة، فيزداد شعورهم بأن هذا واجبهم الوطنى، ويتضخم الشعور الكاذب بالبطولة.. أنهم يقفون ضد السلطة.. ألا تستحق أفكارهم أن يموتوا من أجلها؟!
لأن الواحد منهم بهذه النفسية المشوهة لا يمكنه تحمل أن أفكاره ومقولاته قابلة للنقاش، يلجأ فورا إلى الشتائم وغيرها من الوسائل غير المشروعة وغير المحترمة، فالهدف هو إهانة وإذلال الخصم، إعدامه معنويا ليخرج من ساحة الصراع إلى الأبد.
إنها حرب قبائل، إلصاق كل الموبقات بالقبيلة الأخرى، وتلصق بنفسك كل المميزات، تدافع باستماتة وحتى آخر نفس عن أعضاء قبيلتك، ليس لأنهم لأنه على حق، ولكن لأنه من القبيلة، ولا حل مع القبيلة الأخرى سوى إبادتها، قتل رجالها وسبى نسائها، فليس هناك تعايش، ولا تقاسم لبئر ماء ولا لزرع.. لابد أن يختفى الخصم من الوجود حتى تكون قبيلتك الأقوى.
إنه ميراث اللعنة الذى أصاب مصر، والذى يشغل البلد بكلام فارغ، لا يدفع أى شىء للأمام، ينطلق من احتياجات حقيقية وقضايا تهون على أهلنا العذابات، إنها معارك لا ناقة للناس فيه ولا جمل، إنها معارك البهوات على السلطة، سلطة الحكم وسلطة المعارضة، إهدار لطاقة يمكن أن تكون خلاقة تدفعنا للأمام.
أعرف أن المسئول الأول عنه هى السلطة الحاكمة التى تحتكر وحدها مصير البلد، تعادى خصومها حتى لا يشاركوها، ولكن هل هناك شرف فى أن تكون مثل خصمك، تقلد مفاسده، أم أن المعركة الحقيقة أن تكون أكثر نبلاً وشرفاً منه، تدفعه لأن يكون بمستواك، هل هناك شرف فى أن تسرق من سرقك، أن تكون لصا وأنت تدافع عن الحق؟
لا أظن، فالقضايا النبيلة لا يمكنك أن تكسبها بوسائل خسيسة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة