أينما وليت وجهك سوف تجد نوعا من الشتيمة الحديثة والقديمة، فى الشارع فى الميكروباص، فى التليفزيون فى الصحافة، على شبكة الإنترنت.. سب وشتم وتحرش وقلة أدب، أى خلاف على خمسة جنيهات أو على رأى، يتحول إلى معركة بالألفاظ تستخدم فيها ألفاظ أقلها عبيط أو أهبل أو مباحث أو عميل أو خائن، والشتائم ليست فقط التى تحمل إهانة بل يمكن أن تكون وصفاً أو رفضا أو تكفيرا للآخرين.
كل هذا يدفعنا إلى سؤال: هل المصريون شعب بذىء بيحب قلة الأدب وأنه يفتقد السلوك القويم؟
الإجابة بنعم من الغاضبين والناقمين على الشعب المصرى، لكن الواقع ينفى ذلك، ويكشف أن المصريين مثل أى شعب لديهم شتائمهم وأمثالهم الشعبية.. لكن الأمر يختلف، ومع الأزمات والزحام والضجيج والتلوث والظلم، فإن ارتفاع نسبة الشتائم والعنف المادى واللفظى تعبير عن مشكلة وأزمة تبدأ من التربية والمدرسة ولا تنتهى بالسلطة والشارع، وعلينا التفرقة بين الشتائم المحلية، وبين السباب واستخدام الأم والأب والأعضاء الجنسية، وهى مرفوضة عموماً. إن الشتيمة مثل الفن يجب أن تكون موظفة وفى محلها، وإلا كانت تعبيراً عن أزمة، مثل أن يصبح مجلس الشعب مكاناً للتلاسن والتنابذ بالألقاب.
الحقيقة أن المصريين مثل أى شعب فى العالم له شتائمه المفضلة ويرصد المهندس سامح مقار وهو باحث فى اللغة المصرية العديد من الشتائم المعروفة فى مصر مثل «شرابة خرج، وخيخة، وعبيط، ولكع، وعربجى وبلطجى، وبِلِطْ، ومغفل، ودهل، ورخم، ولطخ، وبغل، وحمار، إلخ.. وأرجعها إلى أصلها المصرى القديم أو القبطى أو التركى. وهذه الشتائم يستخدمها الناس فى الحقول والمصانع والورش، مثل عبيط.. وهى شتائم لا تسبب مشكلة، لكن السب بالأم والأب والدين والأعضاء الجنسية تحمل معانى الإهانة والتعريض، كانت محصورة فى مهن معينة ويوصف مطلقها بأنه عربجى.. وشاعت بين قطاع واسع من سائقى الميكروباص، تصاحبها أصوات من الزور والحلق وإشارات باليد، وتتطور إلى معارك بالسنج والمطاوى وقد تصل إلى القتل، وبعد أن كانت الشتائم بديلا عن المعارك، أصبحت مقدمة لها، أو موسيقى تصويرية.
والمثير أنه عندما تنتشر فى الصحافة لغة سوقية أو شتائم أو معايرات، فإن البعض يستعيد الزمن الجميل، والمعارك الأدبية والسياسية تدار بالمنطق والعقل فى إشارة إلى أوائل القرن العشرين، ومعارك العقاد وطه حسين والمنفلوطى والرافعى، لكن الواقع يؤكد أن الزمن الجميل غير موجود، وأن معارك كبار السياسيين والأدباء كانت تشهد شتائم وإهانات تتواضع أمامها شتائم عصرنا.
وعلى سبيل المثال فى عام 1930 عندما اختلف الأحرار الدستوريون مع الوفد، وصف النحاس محمد محمود رئيس الإحرار بأنه «مخلوق كمحمد محمود لو بيع فى السوق كما يباع الذين شفاههم مثل شفتيه وأنوفهم مثل أنفه وجباههم مثل جبهته ورءوسهم مثل رأسه ما زاد فى السعر عن خمسة ريالات»، أما عباس محمود العقاد فقد كان من أكبر الأدباء عنفا وأحيانا عنصرية، وشبه محمد على علوبة بالقرد قائلاً: «الحق علىّ فى الرد عليك يا «ميمون» أو الحق علينا لو ناقشناك كما يناقش الآدميون، فارقص يا محبوب الشبان الأحرار.. خيبة الله عليك وعليهم أجمعين»، ويصف العقاد أستاذ الجيل أحمد لطفى السيد بأنه «السيد المعتوه بشهادة الطب والأطباء الذى دب السوس فى دماغه فاستأصلوه»، ويقول عن سلامة موسى «إنه قبطى، وانه يهتم بتربية الخنازير»، وعندما سألته صحفية عن أسباب عدم زواجه مع إشارة لضعف رجولته قال «أما رجولتى فليسأل عنها أمه».. وكان يقصد رئيس التحرير وقال عن طه حسين: إنه ليس عميد الأدب.. إنه أعمى الأدب، وهو مايرصده وغيره راسم الجمال فى كتابه عباس العقاد فى تاريخ الصحافة المصرية.
ولا نسوق ذلك لنتهم كبار الأدباء بقلة الأدب، بل لنثبت أن الشتائم كانت دائما موجودة فى مكانها، وكانت المعارك الأدبية والسياسية تحمل الكثير من الشتائم كالحمار أو الغبى أو التعريض بالأسرة والأصل، وهى أمور ظلت فى السياسة وكانت هناك شتائم بين اليساريين مثل رجعى وديماجوجى وانتهازى وتلفيقى، أو شيوعى وإرهابى، ولا يمكن إخراج التكفير من دوائر الشتائم، لأن التكفير يعتبر نوعا من السب، سياسياً أو دينياً.
الشتائم إذن موجودة دائما، ولا تدل على أننا شعب قليل الأدب، لكن انتقالها إلى مجلس الشعب أو السينما والأدب بهذا الشكل دليل أزمة. وحتى طريقة المعاكسة التى كانت تكتفى بألفاظ هادئة وأوصاف استعارية، أصبحت فى السنوات الأخيرة تحرشاً لفظياً ومادياً، يصل إلى حد التحرش وخدش الحياء، وانتزاع الملابس وهتك عرض السيدات والفتيات، ومطاردتهن فى الطرقات والأماكن العامة، وانتقلت إلى السينما والأدب الذى تجاوز كونه أدباً مكشوفاً إلى مجرد رصد ألفاظ بحثاً عن الجاذبية فترى أسماء وحركات وأصواتا، هدفها لفت الانتباه والتوزيع، وتتسع أكثر على شبكة الإنترنت، فى بعض المدونات أو الصفحات الخاصة، وتجمع الإفيهات الجنسية واللفظية. وبالتالى فإن وصم المجتمع بالبذاءة نوع من الاستسهال والاختزال، الشتيمة جزء من ثقافة أى شعب، طالما كانت تعبيراً عن مواقف ولم تتجاوز قواعد الأدب أو تصل إلى السب والقذف، وعلينا التفرقة بين قلة الأدب الفاسدة التى انتشرت فى السنوات الأخيرة وبين الشتائم الشائعة بين المصريين، وقد عرفت الموالد والجلسات السمر القديمة فى مصر نوعاً من «المقارضة» التى كان عبد الله النديم بارعا فيها بداية حياته، وهى أقرب للمواجهة بالشتائم.
الشتائم جزء من الثقافة لكنها عندما تتحول إلى حالة دائمة تعتبر مرضا وتعبيرا عن أزمة لا يمكن فصلها عن الكبت السياسى، أو وجود حالة حراك واتساع دوائر النشر وحرياته نسبياً، بما يجعل حالة الاحتقان تترجم فى شتائم إلكترونية أو إعلامية.
لمعلوماتك...
◄10 آلاف شتيمة يتبادلها المصريون حسب دراسة للمركز القومى للبحوث الأجتماعية
◄10 آلاف جنيه غرامة ضد طبيبة اتهمت بسب وقذف زميلاتها عن طريق الموبايل
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة