محمود عوض

من الوجه الآخر لعبدالوهاب

الجمعة، 24 يوليو 2009 12:17 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ظروف عديدة معاصرة، أعادت إلى ذهنى تلك الجزئية فى شريط الذكريات الذى ربطنى بالفنان الكبير الراحل محمد عبدالوهاب. هناك عمر يفرق بيننا، وجيل آخر أنتمى إليه، ومحيط مختلف أتحرك فيه، ومهنة أخرى جعلتنى أعيش على حافة الحياة الفنية وليس فى قلبها.

مع ذلك كان عبدالوهاب ثقة منه وتجربة، يرى أن هذه الاختلافات، ربما تكون بحد ذاتها ما يجعل علاقتنا صحية ومستمرة وأمينة. هو له حياته وموسيقاه وفنه وعلاقاته ومصالحه.

ولكنه يريد أيضا بين وقت وآخر أن يفهم ما يجرى من شئون عامة أولا بأول. يفهم المعنى والمغزى ولو لأنه متعدد العلاقات عربيا وجمهوره باتساع العالم العربى.فى تلك المرة بدأ عبدالوهاب مكالمته التليفونية معى بسؤال: عندك أى ارتباط غدا؟ أصل يا حياتى إنت واحشنى، وعايزين نتغدى سوا بكره علشان «نقر» مع بعض.. (يعنى: ندردش مع بعض).

سألته .. خير؟ أنا كنت مرتب نفسى غدا لمشوار أقضى فيه عدة ساعات بدار الكتب، لمراجعة مواد تلزمنى فى كتاب جديد أعده.

وعلى الفور قاطعنى عبدالوهاب متسائلا بلهجة تحمل ضمنيا إجابتها.. ولو قلت لك علشان خاطرى تأجل مشوار دار الكتب لوقت تانى علشان نتغدى سوا بكرة؟.

من ناحية، لم يكن هذا هو محمد عبدالوهاب فى طبعته المعتادة.. فمكالماته دائما مرحة ومطولة ومزدحمة بالحكايات. فى هذه المرة هو مباشر ومحدد جدا فى إصراره على دعوته لى «غدا». هو أيضا لم يفصح عن السبب فى الاستعجال، ولا ألمح إلى ما يشغل باله ليفكر معى بشأنه غدا بصوت عال، كما حدث فى مئات المرات من قبل ومن بعد. فى هذه المرة.. عبدالوهاب مختلف.

كان ذلك فى أحد أيام سبتمبر 1978 والمسألة الطاغية فى النقاش العام والخاص، هى تفاعلات المبادرة التى كان أنور السادات قد أعلنها بشأن إسرائيل، وزيارته التالية إلى القدس وخطابه الشهير فى الكنيست الإسرائيلى، ورد مناحيم بيجن رئيس الوزراء الصارم عليه.. وعلى الهواء.كان بيجن منذ مجيئه إلى السلطة فى مايو 1977، يكرر تنويعات مختلفة لشعار محدد عن آفاق السلام مع العرب. المغزى هو: السلام ممكن.. وفورا..بمجرد أن يجلس معى أى زعيم عربى. لن تكون هناك أى مشكلة بيننا وبين العرب.. فكل شىء قابل للتفاوض.

لكن بعد الفورة الإعلامية التى حققتها زيارة أنور السادات للقدس أمريكيا وإسرائيليا.. وبعد استقباله لمناحيم بيجن فى الإسماعيلية، وقف مناحيم بيجن بجوار السادات ليعلن على الهواء بأن حرب يونيو 1967 كانت من وجهة نظر إسرائيل حربا دفاعية، اضطرت إسرائيل إليها دفاعا عن نفسها, كلام متفجر ومسموم وخطير، دفع الدكتور عصمت عبدالمجيد للرد عليه فى نفس الجلسة، حيث كان سفيرا لمصر بالأمم المتحدة، استدعى لرئاسة الوفد المصرى المفاوض لإسرائيل. بعدها تبخرت فورة المبادرة ليبدأ حديث الواقع .

وحينما قال السادات إن أقل ما يتوقعه من إسرائيل استجابة لمبادرته، هو إعادة سيناء المحتلة إلى مصر، رد عليه مناحيم بيحن علنا بقوله:كل حبة رمل من سيناء قد تعيدها إسرائيل إلى مصر يجب أن تكون بمقابل. الرئيس الأمريكى جيمى كارتر لعب دور الوسيط من اللحظة الأولى.

وبعد جولات قام بها وزير خارجيته سايروس فانس إلى المنطقة، جاءت الذروة الجديدة: دعوة من كارتر إلى كل من السادات وبيجن لمفاوضات مغلقة تحت رعايته فى منتجع كامب ديفيد لحسم التسوية المتعثرة بين مصر وإسرائيل.

اجتماعات كامب ديفيد تلك استمرت لأيام، والأخبار بشأنها متقطعة ومتناقضة.. إلى أن أعلن فجأة عن التوصل إلى ما سمى لاحقا «اتفاقية كامب ديفيد».

فى بيت محمد عبدالوهاب، وحتى من قبل الغداء، فاجأنى بالسؤال الذى بدا مؤرقا له مؤخرا: تفتكر ليه العرب هجومهم مستمر على السادات ومبادرته؟ أليس طبيعيا بعد كل الحروب التى خاضتها مصر مع إسرائيل من أجل العرب.. أن يجرب أسلوبا آخر؟

قلت له مندهشا :من قال أصلا إن حروب مصر مع إسرائيل كانت من أجل العرب؟ مصر كانت تدافع عن أمنها هى ومصالحها هى.. لكننى جئت لتناول الغداء.. وليس للدخول فى مناقشة كهذه قد تستمر لسنوات.

هدأ عبدالوهاب من لهجته قليلا ليداعبنى بقوله:يا محمود يا حبيبى.. انت إبنى الذى أثق فيه.. وأنا أسمع آراء عديدة، ويلح على ناس مهمون فى الإعلام لاستنطاقى بأى شىء، خلاصته إن مصر هى التى تقود العرب سلاما وحربا.. وعليهم السمع والطاعة.. لا أريد أن أصبح كما الأطرش فى الزفة.. نورنى.

قلت له: إذا سمح أى شخص لنفسه بقول مثل هذا الكلام، فأنت شخصيا يجب ألا تنخدع به. فالموسيقى المصرية، والغناء المصرى، والأدب المصرى، والصحافة، والسينما المصرية ليست منتشرة وسائدة فى العالم العربى بقوة السلاح، وإنما بقوة التأثير. وأى دولة لا يصبح لها دور فى محيطها بحكم الميراث ولا بتكليف من الأقدار. فالدور شىء، والوظيفة شىء آخر، والتقبل النفسى شىء ثالث و.. و.. مارأيك مثلا فى فرقة البولشوى؟
رد عبدالوهاب بسرعة وبهجة: يا ثلام.. أعظم فرقة باليه فى العالم كله.

عظيم.. افترض هنا أنك كمحمد عبدالوهاب أو من خلال شركتك الخاصة، دعوت فرقة البولشوى بالمجىء من موسكو، لإحياء عدة حفلات باليه فى القاهرة.. تفتكر الإقبال على حضور الحفلات سيكون جماهيريا؟ أو إن تلك الحفلات ستغطى تكاليفها؟ طبعا.. لا. ليس لأن الشعب المصرى فاسد الذوق فنيا.. ولكن لأن هناك صورة ذهنية موجودة لديه مسبقا. صورة إن البولشوى فرقة باليه عالمية، صحيح، لكنها روسية.. يعنى شيوعيين لا يعرفون ربنا.. إلخ. يعنى الفن هنا يدفع بغير ذنب ثمن جريرة السياسة.

هنا بالضبط طرح عبدالوهاب سؤالا بدا منطقيا تماما فى لحظتها: يعنى أنا.. محمد عبدالوهاب.. العرب يحبون ما أقدمه من موسيقى وألحان.. فإذا أعلنت تأييدى للسادات وما يفعله مع إسرائيل.. سيكرهونها؟

قلت له: العرب يحبون موسيقانا وأغانينا وأدبنا ولهجتنا وصحافتنا فى عملية تراكمية مستمرة منذ قرون سابقة. ثم.. من قال إنك ملزم أصلا بأن تكون طرفا فى السياسات الجارية للسادات أو لغيره.. بالخير أو بالشر. الفنان هنا يجب أن يكون له دور بالمعنى العريض التقدمى، وليس بالمعنى الأيديولوجى الحزبى الضيق. الفنان يحلق فى السماء.. بينما السياسى يعيش الواقع. والفنان يعبر عن وجدان الناس.. أما السياسى فيخاطب مصالحهم. الفنان يجب أن يكون دائما مع الحق والعدالة والإنصاف والخير والجمال. لكن السياسى متقلب بين مصالحه وقدراته وظروفه وواقعه.. وربما يقبل حلولا يعرف هو نفسه أنها غير عادلة ولا منصفة.

لم يقاطعنى محمد عبدالوهاب. وللحظات بقى صامتا، وكأنما هو فى حالة سرحان. وتصورت أننى أغرقته فيما هو بعيد عن دائرة اهتماماته العملية. هو فى السياسة من أصحاب نظرية «خليك جنب الحيط«». يعنى لن تجد له فى أى وقت موقفا معارضا للسياسة السائدة، أو نقدا ذا قيمة لما يجرى فى مجالات قريبة منه.. كالإعلام مثلا. وفى المرة الوحيدة التى طلب فيها موعدا مشتركا هو وعبدالحليم حافظ مع الرئيس جمال عبدالناصر لنقل شكوى الفنانين من تعسف مصلحة الضرائب مع الفنانين وعدم مراعاتها لتكاليفهم.. ترك لعبد الحليم حافظ دفة الحديث كاملة, حتى بعد أن طرح الرئيس تساؤلات واستفسارات.. استمر عبدالحليم هو الذى يرد ويوضح.. مستمرا فى ذلك حتى آخر دقيقة من المقابلة. وبالطبع لم يفت ذلك على الرئيس.. فداعبه مع انتهاء المقابلة قائلا : على فكرة يا أستاذ عبدالوهاب.. لماذا كنت كثير الكلام طوال الجلسة؟!

أقول إن محمد عبدالوهاب كان، بالطبيعة وبالتجربة، حريصا دائما على حسن العلاقة مع أهل القرار والسلطة. البعض قد يسمى هذا نفاقا، لكن البعض الآخر قد يراه من قبيل «يا نحلة.. لا تقرصينى.. ولا أنا عايز منك عسل». لذلك أردت تبسيط الأمور بدرجة أكبر بالنسبة لعبد الوهاب، حتى لا أزيد من مأزقه الداخلى كما بدأت أدركه.. فسألته: ما رأيك فى الزعيم الراحل مصطفى النحاس؟

هنا تهللت أساريره وتراجع بظهره خلفا وهو يقول: يا ثلام.. زعيم هائل.. وأنا نفسى كنت من أشد المتحمسين له ولزعامته لحزب الوفد.. رغم صداقاتى الموازية مع أهل الشأن والحيثية فى الأحزاب الأخرى.

قلت له: عظيم .. إذن دعنا نبدأ المناقشة من هنا. من مصطفى النحاس.






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة