بين الحين والآخر ترتفع أصوات تتحدث عن الخونة الذين يتعاونون مع أعداء الإسلام المحتلين لأرض المسلمين، والخيانة سلاح قديم خسيس عرفته البشرية قديماً واستخدمته الدول والحكومات والجماعات والقوى المختلفة لإحداث نكاية سريعة وحاسمة بالطرف الآخر المعادى لها، عن طريق تجنيد أفراد بتغيير انتمائهم لدينهم أو لوطنهم أو لمعتقداتهم أو مجتمعهم. وهؤلاء الأفراد يستعملهم كيفما شاء عدو دينهم أو وطنهم أو مجتمعهم لإحداث نكاية مؤثرة بأهلهم وبلدانهم.
ومنذ أيام زلزل فاروق القدومى، القائد الفتحاوى الكبير، الأرض تحت أقدام أبومازن رئيس السلطة الفلسطينية ودحلان، بإعلانه فى 12 يوليو عن حيازته لوثيقة محضر اجتماع سلمها له ياسر عرفات قبل موته، وقد ضم هذا الاجتماع الذى تم فى أوائل مارس 2004 كلا من شارون وموفاز من العدو الصهيونى، وأبومازن ودحلان من الجانب الفلسطينى، بخلاف وجود طرف أمريكى هو وليم بيرنز.
وأخطر ما فى الوثيقة، والذى يعد بؤرة الزلزال فيها، أن الاجتماع ناقش اغتيال عرفات بالسم وقيادات فلسطينية أخرى أبرزهم الشهيد الحمساوى الرنتيسى وقيادات فلسطينية مقاومة .وقد شدد القدومى على أن الوثيقة صحيحة مائة بالمائة. وهنا انطلق زلزال الوثيقة ليزلزل مصداقية السلطة الفلسطينية ويفجر جدلا رهيبا حول اغتيال ياسر عرفات والخونة والخائنين فى قيادة السلطة.
الحقيقة أن قوة زلزال وثيقة القدومى ينبع من تاريخ الرجل، فهو معروف بنزاهته السياسية واستقامته فى طريق الكفاح والمقاومة من أجل فلسطين، بخلاف مركزه السياسى، فهو رئيس الدائرة السياسية لمنظمة التحرير منذ 36 عاما وهى سنوات ليست بالقليلة فى تاريخ القضية الفلسطينية ومعرفة أسرارها، وهو من أوائل المؤسسين للمنظمة مع عرفات وأبوإياد عام 1965 .
من الواضح أن الوثيقة فرضت نفسها على الواقع الفسطينى وبدأ الجدل حول حقيقة صحتها يفرض نفسه، من خلال الوقائع التى منها أن كل الدلائل تشير إلى أن عرفات مات مسموماً، والسؤال الذى فرض نفسه: أن العدو الصهيونى بلا شك هو من اغتاله.. لكن من أدخل السم إلى رام الله وسمم عرفات؟ وإجابة السؤال تتردد فى كل مكان أن أبو مازن رفض تشريح جثة عرفات.. لماذا؟ ثم إن الوقائع على الأرض تشهد بوجود مؤامرة لتصفية قادة المقاومة، وهو ما تؤكده الوثيقة، خاصة أن حماس والجهاد منذ سنوات اتهمتا السلطة بالتعاون مع الاحتلال فى تصفية قادة المقاومة.
الحديث عن الخيانة فى فلسطين حديث قديم ذو شجون، بدأ منذ أن وضع اليهود أقدامهم على أرض فلسطين فى مطلع القرن العشرين بغية التمهيد لاحتلال فلسطين.
ومن خان فلسطين ليس يهودياً إنما هو عربى باع الحق والمقدسات والأرض والدماء والأعراض من أجل كرسى ومنصب زائل.فعندما نقلب صفحات التاريخ نجد صفحات سوداء لخيانة فلسطين، على سبيل المثال فقد نشرت جريدة أخبار اليوم المصرية بالعدد 280 الصادر بتاريخ 18/3/1950 خمس وثائق خطيرة بخط ملك عربى(ملك الأردن) وبخط كبار رجال حكومة الاحتلال الإسرائيلية تثبت أن الملك كان على اتصال باليهود طيلة مدة حرب فلسطين وبعدها، وقد نشرت المطبعة السلفية بالقاهرة مجموع تلك الوثائق تحت عنوان "وثائق خطيرة عن اتصال حاكم عربى باليهود قبل حرب فلسطين عام 1948"، ودلت تلك الوثائق على اتصال الملك الذى كان قائداً أعلى للجيوش العربية واعترافه بإسرائيل فى الوقت الذى كان يقتل فيه الآلاف من أبناء العرب المسلمين برصاص اليهود، وتضمنت مفاوضاته تسليم مناطق كثيرة فى فلسطين لليهود والتعهد بوقف الحرب ومنع الجهات الأخرى من القتال كالجبهة العراقية، وتعهد لليهود بتقسيم فلسطين بين اليهود والعرب، وقد اندلعت وقتها أصوات عالية وصرخات تطالب بفصل شرق الأردن من الجامعة العربية، ولكن للعجب أن حكومة لندن أصدرت الأوامر (للجامعة العربية) بمنع صدور هذا القرار.
وليس عجيباً أو غريباً أن تمضى السنوات وتذيع إحدى القنوات الفضائية مشاهد لحاكم عربى وهو يهبط مطار بن جوردن قبل حرب 1973 بساعات ليبلغ جولدا مائير بقرار الحرب ضد إسرائيل، وتمضى قضية فلسطين بأحداث واتهامات بالخيانة متعددة فى لبنان وسوريا والأردن، ما بين اتهامات لحكومات عربية بتصفية الفلسطينيين فى صبرا وشاتيلا وأيلول الأسود وتل الزعتر، وبين اتهامات للفلسطينيين أنفسهم، وكانت علاقة تونس والمغرب بدولة الاحتلال سراً حتى جاء السادات وأزال جدار التعمية والاستحياء بزيارته الصدمة للقدس، ثم تلا ذلك بكامب ديفيد فارتفعت الأصوات بالاتهام بالخيانة.
وكان الاتهام بالخيانة صوته عالياً فى الوطن العربى، ولكنه أخذ فى التلاشى لحساب الواقعية المذًلة المريرة، وتبدلت المبادئ والقيم وتغيرت الأصول والحقوق وبعد أن كانت منظمة التحرير تصرخ بالثورية وتتهم من خالفها بالخيانة، تلاشت ثوريتها بل وانقلبت انقلاباً حاداً وأصبحت ثورية لكن فى خيانة فلسطين والفلسطينيين فقط.
ويبقى أن الذين خانوا فلسطين هم الذين شاركوا فى مؤامرة اغتيال قادة المقاومة والجهاد من فتحى الشقاقى ويحيى عياش حتى أحمد ياسين والرنتيسى، ليخلو لهم المكان والأرض والزمان لتضييع حقوق الفلسطينيين وتضييع فلسطين والقدس والأقصى.. والآن.. الكثيرون فى فلسطين والدول العربية يقدمون القرابين بخيانة فلسطين ليرضى عنهم سيدهم فى البيت الأسود.
ولكن هيهات.. فمهما تجملوا وتعطروا واستخفوا فهم معروفون، لأن الخيانة لها رائحة نتنة لا تخفى، وإذا أردنا أن نعرف من خان فلسطين فهو كل من له مصلحة فى بقاء إسرائيل وقتل المجاهدين ووقف المقاومة والحرص على إرضاء أعداء الأمة. ولايبالى بالأقصى ولا القدس ولا حصار الفلسطينيين ولاحق الفلسطينى فى أن يعود لداره وأن يكون وطنه فلسطين حراً مستقلاً من البحر للنهر.
وأخيراً، حتى لا نيأس نتذكر صورة مشرفة لمواجهة خيانة فلسطين، نهديها للأجيال حتى تعرف الشرفاء الأبطال الأوفياء لفلسطين من الخونة المجرمين الذين لا يستحيون، والموقف البطولى قدمه لنا السلطان عبدالحميد آخر خلفاء الدولة العثمانية، ورغم أن أيامه شهدت محناً واضطرابات وثقل ديون وضعفا وأحداثا كثيرة كانت كلها تصب فى ضعف شديد لدولته وحكمه، إلا أن الرجل كان شريفاً عزيزاً، وذلك عندما قام اليهود بمحاولة خسيسة مع السلطان، فأوفدوا إليه الثرى اليهودى قره صو لمقابلته، وفى المقابلة قال قره صو للسلطان: "إنى قادم مندوباً عن الجمعية الماسونية لتكليف جلالتكم بأن تقبلوا خمسين مليون ليرة ذهبية هدية لخزينتكم الخاصة ومائة مليون كقرض لخزينة الدولة بلا فائدة لمدة مائة سنة، على أن تسمحوا لنا ببعض الامتيازات فى فلسطين"، فلم يتم قره صو كلامه حتى نظر السلطان عبدالحميد إلى مرافقه بغضب وقال له: "هل كنت تعلم ماذا يريد هذا الخنزير"، فارتمى المرافق على قدمى السلطان مقسماً بعدم علمه، فالتفت السلطان إلى قره صو وقال له: "اخرج من وجهى يا سافل".فأرسل إليه قره صو برقية تضمنت أن رفضك سيكلفك مملكتك وأنت شخصيا،ً فلم يهتز السلطان عبدالحميد.
ولقد حاول اليهود مرة ثانية عن طريق هرتزل اليهودى الذى حاول رشوة السلطان مقابل امتيازات لليهود فى فلسطين، فرفض السلطان فى إباء وشموخ وعزة وكبرياء ندر أن نجدها فى هذا الزمان، ولقد كتب هرتزل الموقف فى مذكراته فقال: "ونصحنى السلطان عبدالحميد ألا اتخذ أية خطوة أخرى فى هذا السبيل لأنه لا يستطيع أن يتخلى عن شبر واحد من أرض فلسطين، إذ هى ليست ملكاً له بل هى لأمته الإسلامية التى قاتلت من أجلها وروت التربة بدماء أبنائها، كما نصحنى أن يحتفظ اليهود بملايينهم، وقال: إذا تجزأت إمبراطوريتى يوماً ما فإنكم قد تأخذونها بلا ثمن، أما وأنا حى فإن عمل المبضع فى بدنى لأهون لى من أن أرى فلسطين قد بترت من إمبراطوريتى وهذا أمر لا يكون".
ولقد حاول اليهود عن طريق حزب الاتحاد والترقى ( يهود الدونمة )، وذكر السلطان تلك المحاولة فى رسالة هامة لشيخه فى مذكرات نسردها للعظمة والتأمل والاستفادة التاريخية، يقول السلطان:" إن هؤلاء الاتحاديين قد أصروا على بأن أصادق على وطن قومى لليهود فى الأرض المقدسة فلسطين، ورغم إصرارهم فلم أقبل بصورة قطعية هذا التكليف، وأخيراً وعدوا بتقديم مائة وخمسين مليون ليرة ذهبية إنجليزية فرفضت هذا التكليف بصورة قطعية أيضاً وأجبتهم بهذا الجواب القطعى الآتى :
إنكم لو دفعتم ملء الدنيا ذهباً فلن أقبل بتكليفكم هذا بوجه قطعى، فقد خدمت الأمة الإسلامية والأمة المحمدية ما يزيد على ثلاثين سنة، فلم أسود صحائف المسلمين آبائى وأجدادى من السلاطين والخلفاء العثمانيين، لهذا لن أقبل بتكليفكم بوجه قطعى أبدا.. وبعد جوابى القطعى اتفقوا على خلعى وأبلغونى أنهم سيبعدونى إلى سلانيك، فقبلت بهذا التكليف الأخير هذا وحمدت المولى وأحمده أننى لم أقبل أن ألطخ الدولة العثمانية والعالم الإسلامى بهذا العار الأبدى الناشىء عن تكليفهم بإقامة دولة يهودية فى الأراضى المقدسة فلسطين" .. انتهى كلام السلطان عبدالحميد بموقف مشرف عظيم سطره التاريخ بحروف من ذهب، وللأسف لم يسطر التاريخ بعد عبدالحميد من يرفض بيع فلسطين.
من مثلك ياعبد الحميد من حكام العرب بطل يصمد ويقاوم من أجل فلسطين مهما كانت التضحيات والعواقب. والتاريخ سجل بعدك يا سلطان عبد الحميد صفحات سوداء من الخيانة. ولكن مهما كانت الخيانة وآثارها فالمقاومة هى المنتصرة بإذن الله لأنها حق وطريقها حق وأهدافها حق والحق ناصر أهل الحق.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة