سؤالٌ يراودُنى كلما طالعتُ بعضَ تعليقاتٍ عجائبية حول مقالاتى ومقالات الزملاء، يعلو وجهى الاندهاشُ حينًا، والابتسامُ أحيانًا، ثم الحَزَنُ. تتكلمُ فى مقالك عن الآية الكريمة «والفتنةُ أشدُّ من القتل»، من حيث أن لها تفسيرًا شعبيًّا مغلوطًا، لكنه المستقرُّ فى بعض الأذهان، فتقول: «لم تُفهمنا المعلمةُ وقتَها أن «الفتنةَ» لا تعنى «الوشاية بالآخر»، بل الشِّركَ بالله وإفشاءَ الفتنة فى الأرض. «فيخرج عليكَ أحدهم، مُتخفيًّا وراء اسم زائف هو «ممممممش» (!)، ويردُّ بكلٍّ صَلفٍ وثِقة وسؤدد وغطرسة قائلاً: «الفتنة فى الآية يقصد بها الكفر او الشرك وليس الوشاية فرجاء التحقق قبل الاسقاط على اللآيات وعمل مقالاتكاملة»، هذا نص تعليقه، وتعمَّدتُ نقلَه حَرفيًّا لتكتشفوا معى كيف أن حرصَه على الهجوم ألهاه عن أمرين: أولا إكمال قراءة المقال؛ ليعرفَ أننى سبقتُه فى طرح التفسير الصحيح للآية، ثم ألهاه عن تدقيق تعليقه لغويًّا فخرجَ هكذا ركيكًا مليئًا بأخطاء الإملاء، طبعًا سأفترضُ أن الخطأ من العجلة وليس عن جهل بالعربية! وفى نهاية التعليق لن ينسى أن يسُبَّنى لأننى لا أضعُ الحجابَ، ذاهبًا إلى أن عدم وضعى الحجاب وراء عدم فهمى الآية! انظروا كمَّ الأخطاء المركبة التى ارتكبها فى حقِّ نفسه وحقِّ الإسلام والوجود والصدق واللغة وحقّى؛ فكان مثالاً نموذجًا لظلم الإنسان لأخيه الإنسان. ما كان أسهل أن يقرأ المقال جيدًا ببساطة ليتجنب إيقاع نفسه فى كل تلك السقطات.
لا يختلف هذا عن آخر ممن يتخفون وراء اسم مستعار، كعادة مَن يودون اقتناص الآخر غدرًا من وراء قناع شأن اللصوص. هذا الآخرُ وهبَ عمرَه لمهاجمتى وسُبابى لسبب فى نفسه! أكتبُ عن عدم جواز قطع الأشجار، فيتهمنى، عبرَ لغة ضحلة زاخرة بأخطاء النحو والصرف والإملاء، بالعِمالة لصالح الغرب! أكتبُ عن حكومة سويسرا التى تقترع آراء المواطنين فى كلِّ صغيرة وكبيرة تخص البلاد، راجيةً أن تنهج حكومتُنا هذا النهج، فيتهمنى بالعلمانية (كأنها تهمة)! أكتبُ عن حقوق المرأة فيرمينى بالإلحاد! وفى مقالى السابق قلتُ نصًّا: «شاهدتُ شيخًا بلِحيةٍ يفتحُ نافذةَ سيارته، ليلقىَ فى الطريق الدائرىّ كيسَ قمامة / ..../ وكأن النظافةَ ليست من الإيمان! وكأن الإيمانَ هو إطلاقُ اللحية وتحجيبُ البنات، ثم إفسادٌ فى الأرض!» فيرمينى صاحبُنا «المتنمِّرُ» بمهاجمة الحجاب واللحية والورع والتقوى! كيف لم يفطن إلى أننى إنما أضنُّ على اللحية أن تُخطئ، حيث ينبغى لها أن تكسو وجهَ رجل يعرفُ ما الفضيلة، فيكون قدوةً حسنة لغيره من الناس؟! وإننى بذلك أكثر منه حرصًا على الإسلام، الذى جعل من نفسه مدافعًا عنه دون أن يوكّله أحد لتلك المهمة.
عجبٌ أىُّ عجبٍ! كيف يقرأ هؤلاء؟ وكيف يعون ما يقرأون، إنْ قرأوا؟ هل اللغةُ التى تُكتَبُ بها المقالاتُ عَصيّةٌ هكذا على الفهم؟ هذا ليس شِعرًا مجازيًّا ليُساء فهمُه، وليست رياضيات وحساب مثلثات لتحتاجَ عقلاً عِلميًّا يستوعبها، ولا هى هندسة فراغية تتطلبُ خيالاً متوقدًا خصبًا، ولا هى كيمياء تحتاجُ جدولَ مندليف لفكّ شفرتها، ولا لوغاريتمات يلزمُها جداول أدلّة، إن هى إلا كلماتٌ عربية بسيطة واضحة المعنى، خالية من البديع والزخرف اللغوىّ، فلماذا، ولصالح مَن تُشوّه ويُساءُ فهمُها، ثم يُرمى كاتبُها بكل ما يُغضِبُ السماءَ من سُباب؟.
ويبقى الرِّهان على الواعين من القراء ممن يجيدون القراءةَ والتقاطَ الدلالة والرمز بذكاء وفطنة. لكنْ، وبكلِّ أسف، ليس هؤلاء هدفَ مقالاتنا نحن الكتّاب! فإنْ نكتب عن نظافة البلد مثلاً، ما الجدوى أن يقرأ مقالنَا مثقفٌ هو بالضرورة يحافظ على نظافتها أصلاً، دون حاجة إلى مقال أو توعية؟ الثقافةُ والوعىُ والنظامُ والنظافةُ والذكاءُ وحُسن الإدراك، كلُّها طريقٌ فى التفكير ونهجٌ فى السلوك، وكلٌّ واحدٌ لا يتجزأ. المثقفُ الحقُّ، لابد يمتلكُ عقلاً راقيًا ونظيفًا، ومن ثم سيحافظُ على جسده ولسانه وفضائه راقيًا ونظيفًا. ومَن يعجزُ عن فهم كلماتٍ بسيطة فى مقال، سوف يعجز، بالأحرى، عن إدراك عمق مغزى آية قرآنية تضعُ النظافةَ فى صلبِ الإيمان. وبالتالى لن يرى نفسَه غيرَ مؤمن إنْ هو ألقى القمامةَ على الطريق، وعلى الناسِ السُّبابَ.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة