خيطٌ فلسفيٌّ فانتازيّ عميق يدورُ حوله فيلم "أحمد حلمي" الجديد "ألف مبروك،" الذي أعلن مؤلفُه "محمد دياب"، ومخرجُه "أحمد نادر جلال" أن فكرتَه مقتبسةٌ من فيلم أجنبيّ. كيف يمكنُ أن تكونَ الحياةُ والحضورُ الكثيفُ الضاغطُ غيابًا، ثم يغدو الموتُ والغيابُ الراقي حضورًا كثيفًا. شابٌّ يهربُ من موته الحتميّ كلَّ يوم بحِيَل مختلفة، لأنه محبٌّ للحياة، يتمنى أن يعيش مائة عام. وفي لحظة تحوّل مفصليّ، لحظة نُبْل راقٍ، يقفُ أمام شاحنةٍ ضخمة لتسحقَه، ذاهبًا إلى الموتِ مُختارًا، قربانًا لأسرته الصغيرة التي أحبته طوالَ الوقت، ولم يتعلم كيف يحبّها، إلا في اللحظة الأخيرة من حياته. طوال عمره القصير، أوغلَ الشابُّ في حبِّ ذاته وفقط، فكان حضورُه بين الآخرين غيابًا دائمًا، وحين تعلم أن يحبَّ الناسَ، ذهب إلى حتفه مبتسمًا، ليغدو غيابُه عنهم، هو الحضورُ الكثيفُ بينهم.
ذاتيٌّ، لا يرى من الحياة إلا نفسَه وما يخصُّها من أشياء. متمحورٌ حول نفسه، وكأن الدنيا كلَّها قد خُلِقَت من أجله، والحياةَ قد نُفِخَت فيها الروحُ كي تدورَ في فَلَكه، والبشرَ قد سُيِّروا لكي ييسروا أمرَه. فتى وسيم يعمل بالبورصة، موشكٌ على الزواج. هو الابنُ الأكبرُ لأسرة برجوازية صغيرة. الأبُ موظفٌ حكوميّ، والأمُّ ربةُ بيت، ثم شقيقةٌ صغرى، يعكفُ أخوها على قمعها وممارسة سلطانه عليها، شأنَ ما يحدث في معظم الأسر العربية. يُحرِّمُ عليها الجلوسَ إلى الكمبيوتر الوحيد بالبيت، كما يتدخل في شكل ثيابها، على فرضية تقول إن ثوبَ المرأة، الأختِ والابنةِ والزوجةِ والأمِّ حتى، هو شأنٌ خالصٌ لرجل ما. أبًا كان أو شقيقًا أو زوجًا أو ابنًا. المرأةُ كائنٌ ناقصُ الأهلية، لا يعرفُ كيف يحافظُ على نفسه، ومن ثَمَّ يستوجب وجود ذَكَرٍ ما، يحافظُ عليها نيابةً عنها! وهذا غير صحيح. الصحيحُ هو أن المرأةَ تمتلك وعيًا وإرادة تمكّنها من المحافظة على نفسها نقيّةً دون وصاية أو رقيب. المهم. اليوم هو يوم عرس الشاب، فيطالب أباه بمبلغ من المال ليتمِّمَ مطالبَ الزفاف. وحين تصيبُ الأبَ أزمةٌ مفاجئةٌ يومَ العرس، يتمتم الولدُ: "هو ده وقته!" الأمُّ مصابةٌ بالسرطان، وتُخفي أمرَها عن ابنيها كيلا تروّعهما. بل وترفضُ العلاجَ الكيميائيّ ضغطًا للنفقات. فتداومُ على تعاطي مسكّنات لآلامها، سوف يظنُّها الولدُ، المنخرطُ في حبِّ النفس وإدانة الآخر، حبوبًا مخدرة، فيكيد لأمه ويُقرِّعها بالهمز واللمز والتصريح. والأبُ المسكين سوف يقوم، سرًّا، بالاستقالة من عمله وتسوية معاشه مبكرًا ليأتي ولدَه بما يحتاجُ من مال، فيظنُّ الولدُ، الذي يجيد جدًّا إدانة الآخرين، أن أباه قد اختلس، فلا ينجو من تقريعه أيضًا.
الكابوسُ المتكرر الذي يزورُ الولدَ لياليَ متواليةً، وينتهي دائمًا بموته ميتةً بشعة، بدا لي بروفاتٍ تحضيرية لموته الحقيقيّ الوشيك. كأنما في أيامه القليلة الأخيرة سوف يتعلم الدرسَ الذي أخفق في تعلمه طوال ثلاثين عامًا، هي سنوات عمره. وحينما استوعب الدرسَ جيدًا، فهمَ مغزى الحياة، فتبدّلت شخصيتُه جذريًّا. أحبَّ الناسَ، أحسن الظنَّ بمن تعوّد أن يسيء بهم الظنَّ، قصَّ شعرَه الذي كان يختالُ به؛ كرسالةٍ تضامنية مع أمّه لكي تُقدِم على العلاج الكيميائيّ الذي يُسقِط الشَّعر، ذهب إلى مقرّ عمل أبيه وأعاد الأموالَ التي كان أبوه جلبها بعدما قدّم استقالته، فألغى طلبَ الاستقالة لأنه يعلمُ أن العملَ بالنسبة لأبيه هو الحياةُ ذاتها، ابتسمَ في وجه شقيقته للمرة الأولى، واحتضنها وداعبها حينما انتبه فجأةً أنها غدتْ صبيةً جميلة تستحقُ حبَّه وحنوَّه واحترامَه، لا قسوته وسخريته، حاول إنقاذ شخص دهمته سيارةٌ فنقله إلى المستشفى، بعدما اعتاد في أحلامه السابقة أن يحاول الفرار من الموقف غيرَ عابئ بموت إنسان. تعلّم في الأخير أن حبَّ الحياة فنٌّ عسير، ورفيع. ليس هو الرغبةَ في العيش مائة عام مُتشرنقًا حول ذاته، بل كيف يكونُ الإنسانُ جميلاً ومُحِبًّا لمن حوله، مُقدِّمًا يدًا بيضاءَ للآخرين، وقتها، فقط، ستغدو السنواتُ القليلةُ مائةَ عام، وأبدًا طويلاً لا ينتهي. ووقتها، أيضًا، يقدرُ المرءُ أن يلوِّحَ للحياة مبتسمًا، ثم يذهبُ إلى الموت طائعًا فَرِحًا، دون رهبةٍ أو وجَل.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة