«أُصرُخى صَرخِة ميلاد/ أُصمُدى ساعة الألم/ ياما فى الأرحام ولاد/ حلمها رفع العَلَم/ زَغرَدى لاجل اللى جاد/ بالحياة ضد العَدَم/ انهَضى مفيش حداد/ أُطلُبى حق اتظَلم/ أُصرُخِى صَحّى الجياد/ أُنصُرِى حِلم اتهَزَم/ أُعبُرى أيام شِداد/ ياما ف البركان حِمَم/ أُمّتى حان المَعاد/ قُومِى يا خيرَ الأُمَم/ إنشِدى لحن الجهَاد/ أيقِظِى فينا الهِمَم.»
المخاطَب فى هذه القصيدة هو «مصر». والمتكلِّم هو أحد أبنائها المغتربين عنها. اسمه شاهين أبو الفتوح. محام شاب، اختارت له صروفُ الحياة أن يهجرَ بلادَه ويعيشَ فى النمسا سنواتٍ عشرًا، رزقه اللهُ خلالها ابنَه الأول »أدهم«. خاف الوالدُ أن ينشأ وليدُه منبتَّ الصِّلةِ بأرضه الوطن، فراح يكتبُ أغنياتٍ وقصائدَ يغنّيها على مسمع الطفل فى مهده كى يوطّدَ عُرى الحبل السُّريّ بينه وبين أمّه البعيدة عن العين، القريبة فى متن القلب: مصر.
اختار أن يلحّن أغنياتِه الموسيقار فايد عبد العزيز، وأن يغنيّها محمد الحلو، وعصام محمود، وسواهما، مثلما اختار لنفسه لقبًا ارتآه أنسبَ النعوت للحظة الغفلة التى تحياها مصرُ الراهنة. «المصحّياتى». وهل نحتاجُ الآن لشيء أكثرَ من أن نصحوَ؟ طالتِ الغفوةُ حتى امتدّت عقودًا معتمةً، ننتظرُ أن يجلوَها صُبحٌ عَزَّ مجيئُه. نحتاجُ أن يصحو وعيُنا بحقوقِنا التى ابتلعتها، ليس وحسب، بطونُ الفاسدين، بل بالأساس ابتلعها ووأدها جهلُنا بها. فأنا من الذاهبين إلى أن العَتبَ لا يكونُ على الحكوماتِ الفاسدة، وفقط. بل على المحكومين الذين مرّروا ذلك الفساد وسوّغوه وشرّعوه وقبلوه، ثم تماهوا معه واستساغوه كأنه قَدَرٌ سماويٌّ مقدور، لا قِبَل لأحد بدحره أو مقاومته! طبيعةُ عمل اللصِّ أن يسرقَ، والفاشيّ أن يقمعَ، والظالمِ أن يظلمَ، والفاسدِ أن يُفسد فى الأرض، لكنْ، فى المقابل، هل طبيعةُ عمل المسروق والمقموع والمظلوم والمنهوب حقّه أن يصمت؟ أم أن يرفضَ ويقاومَ ويتمرّد ويثور؟ تلك هى المسألة، وفق ما قال شكسبير على لسان ابنه الثائر المظلوم هاملت. «اصحى يا نايم يا نايم اصحى/ قوم تنهض الأوطان/ قوم وحِّد الديّان/ بلدك يا مصرى اللى بناها/ كان من بنيها/ واللى عاداها من عهد مينا/ مالوهش فيها/ اقرا تاريخك / وشوف بعينك/ أصلك وفصلك/ دنياك ودينك/ مرهون بإنك تزرع بأرضك/ تصنع بإيدك/ بلدك يا مصري/ ربك حَباها/ وهبها نيلها/ وخَلا فيها/ حنان ولادها/ نجوم بليلها/ ربك جعلها/ مخزون سهامه/ وكان نبينا/ رسول كلامه/ اصحى يا مصري/ صَحّى ضميرك/ عصرك ينادي/ حَدّد مصيرك/ اصحى يا نايم/ يا نايم اصحى/ دبيت برِجلي/ مطرح ما قلبي/ اختارلى دربي/ وأقول يا ربي/ أُجبُر بخاطري/ والاقى حبي/ بلادى مالها/ مثيل يا خِلّي/ أحبابى منها/ بدنى وضِلّي/ نايمين وغُمّة/ حَلِت بأُمّة/ يلزمها هِمّة/ أوعاك تماطل/ وتقولى لِسه/ وتقولى لَمّا.»
كنتُ قد وعدتُ بكتابة مقال عن «المصحياتى». والسببُ فى تحمسى للكتابة عنه هو تلك الكلماتُ التعبوية التى نحتاج إليها الآن، مادامتِ الظُّلمةُ تزدادُ كثافةً، والفجرُ يزدادُ نأيًا. وها أنا ذا أفى بوعدى وأنشر المقال. ثم علمتُ أن شاعرنا «المصحياتى» عضوٌ فى «الحزب الوطنى» أعزَّ اللهُ قدرَه! بل يشغلُ منصبَ الأمين المساعد للحزب بقسم العمرانية! فانتابتنى الدهشةُ والحيرةُ، والارتباكُ أيضًا! وهنا، كان أمامى خياران. إما أن أعْدِلَ عن كتابة المقال، ولا أبرُّ بوعدى لقارئي، وهو الخيار الإقصائيّ، الذى لا أميلُ إليه شخصيًّا، أو أن ألجأ إلى البديل الآخر، وهو الخيار التحاوريّ الأجدى. وهنا أضعُ الأسئلةَ التى طرحتْ نفسَها الآن، دون شك، على ذهن كل من يقرأ هذا المقال: هل بالفعل ثمة أحزابٌ حقيقية فى مصر؟ وإن كان ثمة، فهل يُعدُّ الحزبُ الحاكم أحدَ هذه الأحزاب؟ فضلاً عن أن ينعتَ نفسَه، أى الحزب، بالديمقراطيّ؟ والسؤالُ الأخير: هل مَن يكتب مثل تلك الكلمات الثورية قادرٌ على أن يجد لنفسه مكانًا فى مثل هكذا حزب؟ هل يرى شاعرُنا أن الحزبَ الحاكم، الذى بين قوسين كبيرين منذ نشأته، مهمومٌ بالفعل بصالح هذا البلد، وصالح أبنائه الذاهب حالهم، كلَّ يوم، من سيء إلى أسوأ؟
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة