يقول عن نفسه «لست شاعرا حزينا.. ولكنى شاعرٌ متألمٌ» والألم قد يكون دليلا على إنسانية الإنسان وعدم تبلده، والشعور به قد يكون قرين الحياة والقدرة على الرؤية والتفاعل.
تأمل وتألم، عانى وكتب، سهر ورأى، بكى وتنهد. احترق فأضاء، وعلم فبلًّغ، وخبر فحدث، وحلم فتعذب. جميعهم استخدم «الشعر» وهو الوحيد «خادمه». بنبله اكتفى، وبعفويته تباهى، وبصدقه تزين. صوته الخفيض قادر على إيقاظ الموتى ومساعدة الضعفاء وهدهدة المحزونين، وطمأنة العاشقين منزلا فى قلوبهم السكينة من كل شر، والبراءة من كل أثم، والنجاة من التدنى، والفوز بكرامة الإنسان، هو ضمير الشعر العربى الحديث، ولا أعرف كيف كان يعيش الشعر قبله دونما ضمير، فقدناه فى الثالث عشر من أغسطس منذ ثمانية وعشرين عاما، ومن يطالع ديوانه الفياض سيكتشف أنه كان الأقرب إلى قلب الإنسانية بشفافيته ونزاهته الفنية المرهفة، عن صلاح عبدالصبور أحدثكم، ويا له من «صلاح عبدالصبور». الحب والشعر عنده توءمان، لا يعيش أحدهما دونما الآخر، من صفاء الحب يبتكر الشعر، من عناء الشعر يكتشف الحب، من نورهما يطل الحزن ويزهر الإنسان، يقول «لأن الحــــب مثل الشعــر/ ميــلاد بــلا حسبــــان/ لأن الحــب مثل الشعـــــر/ مــا باحـت به الشفتان بغير أوان/ لأن الحــــب قهــــــار/ يرفـرف فى فضاء الكـون بغير لا تعنو له جبهة وتعنو جبهة الإنسان/ أحدثكم بداية ما أحدثكم عن الحب» وحدثنا عبدالصبور عن «الحب» فى القصيدة التى تحمل اسم الحب من ديوان «أقول لكم» فأوجعنا وأشجانا وأطربنا وأبكانا وغنى للهوى ولأجل محبوبته، ثم غنى لنفسه ولشعره الرقراق، وبحث فى العيون السود عن عين صديقة، وبعد رحلة شاقة قالت له الحبيبة: لقد طابت بك الأيام مرحى بك/ عرفت الآن أنك لى وأنى لك.
لم تغب الأنثى عنه فى أى من مراحل حياته الشعرية، وهو الذى كان يحيا شعرا، ويموت شعرا، ويحب شعرا، حتى حينما كتب سيرته الذاتية أسماها «حياتى فى الشعر» يبحث عن حبيبته فى كل الحنايا يناديها «يا حفنة من الصفاء ضائعة» ويجدها فيغنى لها: صافية أراك يا حبيبتى كأنما كبرت خارج الزمن/ وحينما التقينا يا حبيبتى أيقنت أننا/ مفترقان/ وأننى سوف أظل واقفا بلا مكان» وبعد الضياع والتيه والتشرد يجدها فيقر بأن: عيناك عشى الأخير/ أرقد فيهما ولا أطير هدبهما وثير/ خيرهما وفير/ وعندما حط جناح قلبى النزق بينهما عرفت أننى أدركت/ نهاية المصير» ولم ينس حينما تمنى ميتته أن يتمنى إما أن يموت شاعرا يحدث أو يسمع أو أن يموت بجوار حبيبته «وإن أتانى الموت فلأمت محدثا أو سامعا/ أو فلأمت أصابعى فى شعرها».
«قلبى حزين.. من آتى بالكلام الفرح» هكذا قال، وهكذا فعل، لم يأت بكلام فرح، لكنه أتى بكلام «منير» وهو الذى عرف معاناة الحرف والكلمة والمعنى والأسطورة، عاش فى ليلٍ ليهب لنا النهار فى أغنية، هو ليل الشعر العربى المضئ، ولا يحتاج المرء لمن يدله فى النهار، لكنه يكاد يكون الطريق مستحيلا إن لم نجد من يدلنا عليه فى ليل، فكان «صلاح» أحن من شمس، وأبهى من قمر، وأكرم من نجم، وأرحم من سحابة.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة