لا يوجد للبطل الفرد مكان فى زماننا هذا، إلا فى السينما والألعاب الأوليمبية وأروقة الحكم، بعد أن حاصرت أفلام الكرتون خيال الأطفال و«علبت» الأساطير وجعلتها فى متناول أيديهم، وبعد أن أصبح الفرد رقما فى سجل، تسوقه أوراقه «الثبوتية» منذ لحظة مولده إلى ثلاجات الموتى، مرورا بالمدرسة والخدمة الوطنية والوظيفة، وصارت البطولة فعلا جماعيا مرتبطا بالجيوش أو الفرق التى تسعى لتحقيق انتصار ما، تم التخطيط له بعناية، انتصار يحتاجه الجميع، وكان البطل فى الماضى هو الشجاع، ودعى بطلا لأن الأشداء يبطلون أمامه، وكان قوى البنيان، وربما شاعرا، وعلى حق دائما، ويبرر له الذين يحتاجون إلى بطل ما يقوم به من قتل واختطاف وسبى لأن الانتصار يستلزم هذا، والبطل «العربى» يكون ذا حسب ونسب أيضا، لكى يكتمل المشهد، ولكى تكون التضحية حقيقية ولها جلال، فى السير الشعبية لم يشغلنا الدم الذى يجرى تحت الأقدام، ولم تشغلنا الغاية من القتال بقدر ما تشغلنا سلامة بطلنا الذى ينتصر لنا فى النهاية على الكوابيس التى تطاردنا ونحن أطفال، ولكى يبدد مخاوفنا الغامضة الكبيرة، كان الأهل يعتبرون استمرارهم فى الحياة بطولة، وكان البطل ضروريا للبشرية التى يحاصرها الأشرار طوال الوقت، البطل المعاصر أصبح شيئا آخر، أصبح «سينمائيا» ينتصر على خصم سينمائى ليسعدا معا جمهورهما فى السينما، البطل الهندى الشهير اميتاب بتشان فى مؤتمر صحفى بالقاهرة مطلع التسعينيات سأله صحفى «ما سر إعجاب شعوب العالم الثالث الفقيرة بأفلامه؟»، أجابه «لأنى أحقق لهم العدل فى ثلاث ساعات»، الرياضيون هم الذين يلعبون أدوار المحاربين القدامى، والبطل منهم هو الذى «يقنص» لبلده ميدالية ذهبية أو فضية أو حتى برونزية، بلده الذى حوصر فى نشيد وطنى وعلم يرفرف واسم له بكل تأكيد ثقل دولى وإقليمى، الجميع يشجيهم هذا النشيد، ويجعل الدموع تنهمر من السعادة، ويؤكد لهم أنهم على طريق البطولة، فى الأيام الفائتة انتهت أزمة اختطاف 36 صيادا مصريا على أيدى القراصنة الصوماليين، على يد رجل بسيط اسمه حسن خليل يمتلك مركبا متوسطا أسماه «ممتاز 1»، هذا الرجل أعاد البطولة إلى موقعها الفطرى والطفولى فى القلب، لم يذهب لتحرير أهله باعتباره سلفاستر ستالونى أو جاكى شان أو فريد شوقى أو أحمد السقا، ذهب إلى اليمن وجيبوتى والصومال لأنه شعر بأنه ينبغى أن يفعل هذا، لست معنيا هنا بتفاصيل تحرير المختطفين، ولا بدور الخارجية والجهات التى ساعدته، أنا هنا أمام رجل مفاجئ، ملامحه بسيطة طيبة، عيناه لا تظهران بوضوح، ولكنهما مزدحمتان بالصور، ذو لحية بيضاء مهذبة، على رأسه طاقية شبيكة بيضاء من التى يهادى بها فقراء الحجاج ذويهم، فى يده ساعة «بمينا» غامقة، ويرتدى زى أبناء المدن الساحلية، أنت متأكد أنك تعرف هذا الرجل، ربما كان ينتظر فى محطة أتوبيس ولم تظهر علامات الملل على وجهه، أو فى طابور عيش غير مزدحم، ملامحه فى الصور تؤكد أنه قليل الكلام، تشعر أنه ينصت إلى القرآن، أو يفكر فى مشكلة آنية يجب أن تحل قبل حلول الظلام، هادئ، بدون عضلات، «فوق السن»، شخص فقد ولديه «ورسماله»، وهو جالس فى بيته، فقرر أن يذهب ويأتى بهما، لأن هيبة الدولة التى يحمل جنسيتها لا تسمح بالتفاوض مع قراصنة إرهابيين , ولأن وزارة الخارجية «مش فاضية»، ذهب الرجل، وحرر الصيادين، وعاد، قال للدستور «بينى وبينك.. لو مراتى قالت لى شوفت العيال وقلت لأ.. مش هقدر أدخل البيت» حسن خليل بطل حقيقى، لأنه حقيقى، ولأنه بسيط وغير مشغول بالبطولة، ولن تقدر السينما على «تعليبه»، لأنها لن تتمكن من ترجمة معنى السعى إلى الرزق، ولن تقدر على الإمساك بالخطر الذى يدفع صيادين فقراء إلى الهرب والإبحار بعيدا فى بلاد بعيدة للحصول على كمية سمك محدودة، حسن خليل بطل غريب فى أيام غريبة، ذكرنى بمقولة فيتزجيرالد الروائى الأمريكى صاحب «جاتسبى العظيم»: أرنى بطلا، وسأروى لك المأساة.