فى عام 1992، وبينما كان أعضاء جماعة الإخوان المسلمين فى مصر ينزلون جثمان المرشد العام حامد أبو النصر إلى قبره، انطلق صوت المستشار مأمون الهضيبى عالياً يقول أبايع مصطفى مشهور مرشداً عاماًَ. وساد الصمت على الجميع وتقدم كبار قادة الجماعة وشيوخها ليبايعوا المرشد الجديد فى حالة من التسليم التام، وسميت هذه البيعة بـ"بيعة المقابر".
عدد من شباب الجماعة أصيبوا بالذهول والخرس، وعندما أفاقوا من صدمتهم وحاولوا الاعتراض على هذه الطريقة كان الأمر كان قد انتهى، وتم تثبيت المرشد الجديد وسط حالة من الضيق لدى الكوادر الشابة فى الجماعة. والتى كانت تتصور أنها يمكنها تغيير البنية التنظيمية التى قامت عليها الجماعة منذ نشأتها مثل عقد البيعة للمرشد العام. من خلال هذه اللحظات الحاسمة خرج أول تنظيم إسلامى مدنى مصرى "حزب الوسط".
وبدأ مؤسسو الحزب فى إعداد برنامج له ودعوة بعض المؤيدين للفكرة إلى الانضمام إليهم ووصلوا إلى حوالى 1200 فرد حوالى 38٪ من الأقباط والنساء، وقاموا بالتقدم إلى لجنه شئون الأحزاب لاعتماده كحزب رسمى، منذ عام 1996 حتى الآن وتم رفض الحزب للمرة الرابعة.
وفى المرات الأربع التى تقدم فيها هؤلاء الإسلاميون الإصلاحيون المؤسسون لحزب الوسط إلى لجنة الأحزاب السياسية كان لديهم مشروع برنامج جديد يختلف عن سابقه فى عدد من المواد، ومع ذلك ففيها جميعا تم رفض تأسيس الحزب لنفس السبب الذى أعلنته اللجنة، وهو أن برنامجه "لا يمثل إضافة للحياة السياسية على نحو ما اشترطه قانون الأحزاب وأنه ليس به تميز يدعو للموافقة عليه".
إنى أرى أن النظام الحاكم فى مصر تكلم بنفس الطريقة التى تكلم بها وزير الخارجية الألمانى السابق "كلاوس كنكل"، الذى كان أول مسئول أوروبى يصرح بأن تركيا لا يمكن أن تكون عضواً فى نادى البلدان المسيحية الذى يمثله الاتحاد الأوروبى، ولكن النظام قال "لا يمكن أن يكون هناك حزباً إسلامياً داخل أحزابنا الليبرالية والناصرية والشيوعية"، هذا هو واقع النظام المصرى يرفض أن يفرق بين أصحاب الإسلام المعتدل والمتشدد، متبنياً وجه نظر الغرب، فى إنه لا فرق بين المعتدلين والمتشددين داخل الإسلاميين. فى البداية لابد من التأكيد على أن مصر تختلف عن الأردن والمغرب وتركيا والجزائر والكويت فى أن هذه الدول سمحت للتيار الإسلامى بإنشاء أحزاب تتبنى النهج الإسلامى. من المعروف أن النظام المصرى له تخوفات أمنية من أن يتحول حزب الوسط الذى يقوم على رأسه المهندس أبو العلا ماضى وبعض من زملائه الذين كانوا أعضاء سابقين فى جماعة الإخوان المسلمين، إلى حزب للجماعة بعد الموافقة على تأسيسه، وهو ما يمثل خطاً أحمر لدى النظام السياسى المصرى. وهذا التخوف ليس صحيحاً، فإن العلاقة بين مؤسسى الحزب والجماعة قد وصلت إلى نقاط من الخلاف لا يمكن أن تبنى علاقة طيبة من أى نوع.
التخوف الآخر لدى النظام، وهو أن يصبح هذا الحزب حزباً للتيار الإسلامى المعتدل ويضم بين جنابته قيادات وكوادر هذا التيار، وهو ما يصعب على النظام بعد ذلك الحد من أنشطة هذا التيار باعتباره حزباً قانونياً، وسيكون اتخاذ أى إجراء ضده يؤدى إلى ظهور النظام المصرى أمام العالم كله بالفشل فى تحقيق الديمقراطية فى حالة إصدار قرار بحله أو تجميده.
أما الأوهام، فقد غاب عن عدد من الإسلاميين الهدف والغاية من عمله ودعوته، وهو أن الحركة الإسلامية حركة تغيير اجتماعى وليس حركة تغيير سياسى وأنه بمجرد الإقرار له بشرعية تكوين حزب سياسى وحرية تداول السلطة يمكنه تحقيق أهدافه وغاب عنه أن الأحزاب السياسة فى أمريكا، كما فى غيرها من البلدان الأوروبية تتقارب فى الرؤية والأهداف والقيم الليبرالية الأساسية التى تؤمن بحرية السوق وتعتنق مبادئ الدستور العلمانية، وبالتالى فالشعارات والتمايز يدور حول السياسات العامة والإجراءات لوجود هذا المشترك الجامع من "الأيدولوجية الغربية العلمانية"، فهل الأحزاب فى منطقتنا العربية متفقة على أن الإسلام هو المرجعية الوحيدة لحياتنا، منه تنطلق وإليه تحتكم حتى يكون التمايز يدور حول السياسات العامة والإجراءات لوجود هذا المشترك الجامع.
الواقع والشواهد التاريخية تقول، إن الأحزاب السياسية العربية أحزاب مصنوعة لجأت إليها النظم الحاكمة فى بعض المناطق كواجهة تخفى ورائها أبشع أنواع الاستبداد! بل إن بعضها ينطلق من أيديولوجيات مختلفة تتناقض وثوابت الدين الإسلامى؟ نعم إن العمل الحزبى فى البلاد التى يوجد بها تنازع على أصل المرجعية يمكن اعتباره أحد وسائل التبشير والدعوة إلى الإسلام ليس أكثر واللجوء إليها يخضع لاعتبارات شرعية ورمانية ومكانية أما اعتماده كهدف استراتيجى وخيار وحيد للعمل الإسلامى محكوم عليه بالفشل وقد رفض، صلى الله عليه وسلم، الملك والسلطان حينما عرض عليه زعماء قريش ذلك، لأنهم رفضوا الإسلام، رفضوا أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
كان يجب على هذا التيار الإصلاحى أن يفهم أن السلطة فى الإسلام ليست سوى نتاج للفكر المتجذر داخل المجتمع وحينما يعتقد البعض أن الدولة قادرة على صنع المجتمع الرشيد، فإنه يتناقض وثوابت فكرة الإسلام التغيرية، لقد تركزت سياسة الرسول التغيرية على "الإصلاح المجتمعى"، باعتبار أن الفكرة عندما تترسخ وتنتشر ستكون كفيلة بإحداث التغيير فى الأبنية الاجتماعية، وسيتشكل النظام السياسى بدوره على ضوء هذه الحقائق من دون حدوث هزات حادة"، إن أى مشروع إصلاحى نهضوى للأمة لن يكتب له النجاح والاستمرار، إلا إذا تبنته الأمة وكانت حاضنة له.
وقد يقول قائل كم من حركات التغيير الاجتماعى نجحت فى تحقيق أهدافها مثل الثورة الفرنسية والبلشفية والصينية وغيرها؛ أقول نعم نجحت ولكن باستخدام وسائل قذرة لا تغيب عنا نجحت فى فرض مشروعها وفلسفتها بالحديد والنار والقتل والأمر يختلف فى حركات التغيير الإسلامى، فإن كانت الغاية شريفة فلابد من أن تكون الوسائل شريفة فالغاية لا تبرر الوسيلة.
لقد غاب عن أصحاب الدعوة لإنشاء أحزاب إسلامية، إن الدعم المادى والمعنوى والتى تتصدى أمريكا وأوروبا له، من أن "الإسلام الذى تريده أمريكا وحلفاؤها فى الشرق ليس هو الإسلام الذى يقاوم الاحتلال، وليس هو الإسلام الذى يقاوم الطغيان، ولكنه فقط الإسلام الذى يقاوم الحركات المتشددة. إنهم لا يريدون للإسلام أن يحكم، ولا يطيقون من الإسلام أن يحكم، لأن الإسلام حين يحكم سينشئ الشعوب نشأة أخرى، وسيعلم الشعوب أن لها حقوقاً يجب أن تأخذها وأن تموت فى سبيلها، وأن طرد المحتل فريضة، وأن الشيوعية كالعلمانية وباء فكلاهما عدو، الأمريكان وحلفاؤهم إذن يريدون للشرق "إسلاماً أمريكياً" يجوز أن يستفتى فى نواقص الوضوء ولكنه لا يستفتى أبداً فى أوضاعنا الاجتماعية أو الاقتصادية أو نظامنا المالى، ولا يستفتى أبدا فى أوضاعنا السياسية والعربية، فالحكم بالإسلام، والتشريع بالإسلام، والانتصار للإسلام لا يجوز أن يكون من أطروحاته الحالية أو المستقبلية. وما أشبه الليلة بالبارحة وما أشد تعسى لو كنت أخاطب نائماً يسمع أحلامه ولا يسمعنى.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة