كانت الطائرة تستعد للإقلاع بينما كنت أطالع «اليوم السابع» مقلبا صفحاتها وكأنى أقلب «صحيفتى» فى يوم القيامة، وقفت عند مقالى السابق الذى قلت فيه إن حالة السفر تشبه حالة الاحتضار، فتخيلت أن «المضيف» سيأتى ليسألنى: من ربك؟ وما دينك؟ ومن الرجل الذى بعث فيكم؟ فوجدته يشرح للركاب طرق الأمان إذا وقع مكروه للطائرة، دقائق وأتى المضيف معه بعض الجرائد المتطايرة، ومد كل راكب يده ليتلقف «صحيفته» أخذ الركاب يقلبون صفحات الجرائد فى خضوع واستسلام، تخيلت أن الذين تجهموا حينما أمسكوا بالصحيفة مصيرهم إلى الجحيم، أما الذين فرحوا واستبشروا فهم من أهل النعيم، ليمتد هذا المشهد الكاريكاتيرى المتخيل حتى اقتراب الهبوط، ساعة وعشرون دقيقة هى ما تفصل القاهرة عن عمان، نزلت إلى صالة الاستقبال فوجدت حجرة التدخين التى يقف فيها اثنان من عمال المطار، دخلت إليها مسرعا، فوجدت على الباب ملصقا مكتوبا عليه «اجعل أوقات الانتظار تسبيحا واستغفارا» فتشككت للحظة هل أنا الآن فى عمان؟ أم لم أغادر القاهرة بعد؟ فى المطار كان منظمو مهرجان الرمثا للشعر العربى الذى دعيت للمشاركة فيه واقفين بالانتظار، اصطحبونى إلى سياراتهم ليوصلوننى إلى «أربد» حيث الفندق، وفى الطريق إلى أربد لم أشعر أبدا أننى أمشى فى بلد غريب، وكأنى «على الطريق الدائرى» نفس الطرق ونفس الوجوه، ونفس المحلات والسوبر ماركت، ونفس السيارات المتهالكة، شيئان فحسب هما ما جعلانى أنتبه إلى أننى فى الأدرن، الأول: لوحات السيارات المعدنية، والثانى: صور الملك عبدالله المنشرة على طول البلاد وعرضها، وإن خلا مكان من الصورة، فلابد أن تجد مثلا لافتة تهنئة من أحد التجار للملك بالعيد أو تهنئة للأمير باختياره وليا للعهد، الذى واكب ظهور هلال رمضان المبارك.
«كوفى شوب ليالى دمياط» هو أول ما لفت نظرى فى أربد، تصميمه لا يختلف عن تصميم مقهى التوفيقية بوسط البلد، بنايات المدينة ومحلاتها وأجواؤها تشبه دوران شبرا، يمر الميكروباص فينادى «التباع» الحسين الحسين الحسين، النساء يرتدين النقاب والخمار والحجاب، لو لم يتكلم أحد بلهجته الشامية لما تخيلت لحظة أننى فى الأردن، جلست على المقهى المطل على الشارع، فاقتربت منى سيدة ترتدى النقاب، فى الأول لم أفهم ما تقول لكنى استطعت بعد ثوان أن أكتشف أنها متسولة، فضحكت ولسان حالى يقول: كده كملت.
شيئا فشيئا وبعد يومين من إقامتى فى الأردن لاحظت أن الناس لا يبتسمون، وشعرت أننى فعلا «غريب» الوحيد الذى يضحك، والوحيد الذى يعلو صوته مجلجلا، والوحيد الذى يداعب البائعين ويناديهم بأسمائهم، وفى اليوم الثالث دعينا للعشاء بمنزل الدكتور محمد الزعبى، الذى جهز لنا «مفاجأة» تبين أنها «عازف عود» يغنى الأغانى المصرية القديمة، فطلبت منه أن يغنى «من غير ليه» فاعتذر لأنه لا يحفظها، ثم طلبت منه أن يغنى «القلب يعشق كل جميل» فاعتذر لنفس السبب، فكففت نفسى عن السؤال وظللت أغنى «تلات سلامات يا واحشنى تلات تياااام».
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة