◄يوسف القعيد يسأل أستاذ الرواية العربية: «إنت وفدى يا أستاذ لكن فيك جزء ناصرى» فيرد نجيب: طبعا.. طبعا
◄خالد: «أنا ورثت حب رواياتك من الوالد».. ونجيب يرد: «القلوب عند بعضها ياغالى يا ابن الغالى»
◄الغيطانى وخالد يتذكران أيام التجليات .. وفريدة الشوباشى تشارك ومحفوظ يعلق: «ماشاء الله .. إنت ياخالد بتعز جمال.. وجمال بيعزك
«أهلا، أهلا، شرفتنى قوى يا غالى يا بن الغالى»
كانت الضحكة تخرج من قلب الأديب الكبير نجيب محفوظ وهو يردد هذه الكلمات، ترحيبا بالدكتور خالد نجل الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، عانقه خالد بحرارة، وعلى رأسه طبع أكثر من قبلة وهو يرد: «ازيك يا أستاذنا، وازى صحتك، انت اللى غالى عندنا، واحنا كلنا بنحبك».
كنا فى شهر يونيو عام 1999، وكانت مركب «ليلة» الراسية على شاطئ النيل بالقرب من السفارة الفرنسية، ومنزل الرئيس الراحل أنور السادات، هى مكان هذا اللقاء النادر بين نجيب محفوظ سيد الرواية العربية، وخالد نجل الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، لم يكن اللقاء الذى بدأ فى السادسة مساء صدفة، وإنما جاء بترتيبات مع الأديبين الكبيرين جمال الغيطانى ويوسف القعيد، وذلك على خلفية الضجة الكبيرة التى أثارها كتاب «نجيب محفوظ.. صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته»، والذى كتبه الناقد رجاء النقاش على أنه سيرة أدبية وسياسية وشخصية لأديب نوبل.
احتوى الكتاب على هجوم ضارٍ من نجيب محفوظ ضد جمال عبد الناصر وثورة يوليو 1952، وشمل الهجوم كل شئ تقريبا، فعلت الأصوات بعضها غاضبا، وبعضها مؤيدا، لكن بقيت أسرة الزعيم الراحل صامتة، وطلبت حوارا مع الدكتور خالد عبد الناصر نجل الزعيم الراحل، لكنه كان يؤجله أكثر من مرة حتى ينتهى الجدل حول ما ذكره نجيب محفوظ، وفى الحوار قال لى خالد: «أنا تعاملت مع ما قاله نجيب محفوظ بالطريقة التى تعاملت بها أمى مع فضيلة الشيخ محمد متولى الشعراوى، كانت هى تحب أحاديثه فى التليفزيون بعد صلاة كل جمعة، وسألتها مرة عن سبب هذا الحرص رغم هجوم الشيخ على جمال عبد الناصر، فلم تعطنى إجابة وظلت على عادتها، وتركتنى فى حيرة، حتى توصلت إلى تفسير لذلك ثبتت لى صحته فيما بعد، وهو أنها فصلت بين كون الشعراوى شيخا جليلا فى مسائل الدين وتفسير القرآن، وبين رأيه السياسى، فى الأولى يحبه الناس، وفى الثانية يختلفون معه، وطبقا لهذا أقول حين يكتب نجيب محفوظ فى الأدب، له كل التعظيم، أما حين يتحدث فى السياسة بالشكل الذى تحدث به فى مذكراته، نقول له نحن نختلف معك يا أستاذ نجيب، وأنا كابن لجمال عبد الناصر أقول له إن كل ما قلته فى حق الوالد أنا أغفره لك، وأعتقد أن الكل تعامل معه على هذا النحو».
وأضاف خالد: «نجيب محفوظ أديب كبير ورثت أنا وإخوتى حب أدبه من الوالد الذى كان يحب قراءته كثيرا، بالإضافة إلى مشاهدة الأفلام السينمائية لرواياته، ولن أتحدث عن تدخله المباشر فى بعض الأحيان لصالح هذه الأعمال الروائية أو السينمائية لأن آخرين تحدثوا فيها».
بعد نشر حوارى مع الدكتور خالد، فوجئت باتصال تليفونى من الكاتب والأديب جمال الغيطانى يخبرنى فيه بأن الأستاذ نجيب يريد إبلاغ خالد شكره على ما قاله فى حقه، وقال لى إن يوسف القعيد قرأ له ما جاء فى حوارى معه وتأثر جدا برأى خالد فيه، خاصة المقطع الذى يقول فيه: «أنا كابن لجمال عبد الناصر أقول للأستاذ نجيب: كل ما قلته فى حق الوالد أنا أغفره لك»، وسألت يوسف القعيد عما جرى فأجابنى: «فور أن علم الأستاذ نجيب أن الدكتور خالد تكلم عنه، كان مشتاقا كثيرا إلى معرفة طبيعة هذا الكلام، توقع أن يكون عبارة عن مذبحة، لكنه فوجئ بنبل ما قاله النجل الأكبر لجمال عبدالناصر».
يوسف أضاف: نجيب محفوظ وفدى الهوى، وهذا معروف عنه بحكم تكوينه قبل ثورة يوليو 1952، لكنه حقق نفسه فى مشروع عبدالناصر وليس فترة السادات، وهو حدثنى أكثر من مرة فى جلساتى معه قائلا: «عمرى يا يوسف فى أدبى اللى كتبته فى الخمسينيات والستينيات ما طالبت ببديل لعبد الناصر، أقول له خليك لكن حقق كل اللى كان بينادى به الوفد».
أبلغت خالد كلام نجيب محفوظ الذى حملنى أمانته جمال الغيطانى، وما ذكره يوسف القعيد، وكان وقع الرسالة طيبا عليه، الأمر الذى دفعه إلى القول: «أنا مستعد أن أزور الأستاذ فى أى مكان»، التقطت الخيط: «فكرة عظيمة يا دكتور خالد فلتسمح لى أن أسعى إلى تنفيذها»، رد: «توكل على الله، أنتظر الموعد الذى يحدده الأستاذ وأنا تحت أمره»، واشترط خالد، ألا يتم اللقاء تحت أى مسمى سياسى، حتى لا يتهمنا البعض بالسعى إلى تأويله وتوظيفه فى غير موضعه.
صيف القاهرة كان قاسيا، وأنا والصديق أمين اسكندر الباحث والقيادى الناصرى المعروف كنا فى صحبة الدكتور خالد إلى مركب «ليلة»، وفيها كان موجودا معظم أفراد الشلة التى تحرص على حضور جلسة نجيب محفوظ الأسبوعية فى نفس المكان، ومنهم الكاتب الروائى جمال الغيطانى، والإعلامية المعروفة فريدة الشوباشى، وزوجها الكاتب على الشوباشى، والشاعر السيناريست هشام السلامونى، والأديب نعيم صبرى، والكاتب ذكى سالم سكرتير نجيب محفوظ، وحضر فيما بعد الكاتب الروائى يوسف القعيد الذى ترك منذ البداية اعتذارا عن التأخير لأسباب قهرية، دخل خالد فأخبره الغيطانى الجالس بجواره بصوت عال، قام الأستاذ متجها نحو ضيفه والضحكة تكاد تزغرد من وجهه، تعانق الاثنان بحرارة، يقبله خالد من وجهه، وعلى رأسه قائلا: شرف لى يا أستاذ هذا اللقاء، كلى سعادة أن اطمئن عليك وأشوفك، وتأكد أن كلنا بنحبك، يرد الأستاذ بصوت يقاوم شيخوخة العمر ووهن الجسد: انت اللى شرفتنى قوى يا خالد، أى والله.
جلس خالد بجواره، كان فنجان القهوة السادة أمام الأستاذ، وسيجارة الـ«كنت» فى يده يتنفسها باستمتاع رغم سنواته التى تخطت الثمانين، تأملت العيون وجه نجيب محفوظ المبتسم، وخالد المترقب موزعا ابتساماته للحاضرين، وبعد نظرة منه إلى النيل عبر نافذة المركب، قطع الصمت قائلا: يا أستاذ نجيب.. شرف كبير قوى أن أقابل حضرتك، وأشوفك وأطمئن عليك، رد نجيب محفوظ: انت اللى شرفتنى قوى.. أى والله، قال خالد: انت أستاذنا، وأنت روائى عظيم، وأعمالك كلها فى قلبى وقلوب كل الشعب المصرى والعربى، وبالمناسبة جمال الغيطانى من جيلى وأعتبره أخى وأستاذى، رد الغيطانى: هذه لحظة مهمة مملوءة بالأحاسيس الفياضة والمشاعر الجميلة لأنها تجمع أستاذنا العظيم نجيب محفوظ، والدكتور خالد الذى نحبه ونقدره كما نحب ونقدر والده العظيم جمال عبد الناصر، قال خالد: انت معزتك كبيرة عندنا يا أستاذ نجيب والمؤكد أننا نحبك، رد نجيب: أنا اللى شجعنى يا خالد انك قلت أنا غفرت له.. (مشيرا إلى ما قاله خالد فى حواره لى: «باعتبارى ابن لجمال عبدالناصر أغفر لأستاذنا الكبير كل ما قاله فى حق الوالد»، ضحك الجميع على لقطة نجيب محفوظ، ليضيف خالد: انت تقول يا أستاذنا ويا عمنا الكبير زى ما انت عايز تقول، فرد نجيب محفوظ: والله القلوب عند بعضها يا خالد يا غالى يا ابن الغالى.
يلتقط جمال الغيطانى خيط الحوار الذى كان فى مرحلة ترحاب ومجاملات قائلا:
تزاملت مع الدكتور خالد فى منظمة التضامن الآفر آسيوى فى مرحلة السبعينيات، فرد خالد: نعم يا جمال كانت أيام مهمة وفيها تواصل جيد، وبالمناسبة يا جمال انت كنت وقتها تكتب أجزاء رواية «التجليات»، فاكر يا جمال كنت بتكتبها جزء جزء، وأنا كنت أنتظر كل جزء بفارغ الصبر لقراءته، هو عمل روائى عظيم، وفيه جهد منك جبار فى الحبكة الروائية والحدوتة نفسها وفى استخدامك للتراث، وعلى فكرة يا جمال، تعرف ان أحلى قصة قرأتها لك «اتحاف الزمان»..الله.. الله.. يا جمال عمل أدبى عظيم.
تدخل نجيب محفوظ قائلا: ما شاء الله يا خالد.. انت بتعز جمال قوى زى ما هو بيعزك، وكمان انت قارئ ممتاز لأعماله، رد خالد: طبعا يا أستاذ، بس انت الأصل، وانت أعمالك فى القمة، وهى علمتنى حب الأدب وقراءة الروايات، وعرفت منها قيمة الكلمة العظيمة، وإذا كان هناك فضل لحبى لقراءة أعمال جمال الغيطانى، فهو يعود إليك أنت، رد الغيطانى: على فكرة، قصة «اتحاف الزمان»، هى نواة رواية «الزينى بركات» التى كتبتها فيما بعد، تتدخل فريدة الشوباشى قائلة: التجليات تشتمل على وجدان هائل، وشجن كبير، فيها المزج بين الوالد.. (والد جمال الغيطانى)، والحسين بن على، وجمال عبد الناصر، أنا قرأت أدب جمال الغيطانى كله وأحببته، لكن التجليات وحدها هزتنى وأبكتنى، يسأل الغيطانى الدكتور خالد: يا ترى يا دكتور خالد.. هل ذهبت إلى منطقتى نجيب محفوظ.. الجمالية، والحسين؟، يرد خالد: قليل، وبالمناسبة أذهب إلى منطقة الحسين لما أكون متضايق، أشوف الناس وهى تضحك ومبسوطة وبترمى الدنيا ورا ضهرها وتعيش عيشة البساطة، اللى ماشى مبسوط، واللى قاعد مبسوط، واللى نايم مبسوط، الكل فى حاله وفى ملكوته، أشعر إنى عايش، وشايف الناس بجد، يعلق الغيطانى: كل المعانى التى تذكرها يا دكتور خالد موجودة فى روايات وحكايات الأستاذ نجيب، يرد خالد: صحيح هى موجودة فى أدب الأستاذ، والمدهش أنك حين تقرأ رواياته تشعر وكأنك تعيش فى هذه المنطقة.
دخل يوسف القعيد وبعد سلام وعناق مع الدكتور خالد، يترك خالد له مكانه بجوار نجيب محفوظ، ويقول خالد: تأذن لى يا أستاذ نجيب، بالانتقال من مكانى وأؤكد لك من تانى، أنا فرحان بوجودى بجوارك، واحنا أولادك، وتحياتى للمدام، هى زارت أخى عبد الحميد فى المستشفى، يرد نجيب محفوظ: والله يا خالد يا ابنى أنا فرحان.. ولولا أنى خجلان كنت أبقى فرحان، فرحان.. قوى.. قوى.. قوى، ومهم يا خالد تقول كل الكلام والحقايق اللى عندك عن الوالد، يتدخل جمال الغيطانى: على فكرة يا دكتور خالد، الأستاذ نجيب قال لنا إنه كان يعيش فى العباسية وجار لوالدتك السيدة الفاضلة تحية كاظم، وكان صديقا مباشرا لأخيها مصطفى كاظم، وكان يسمع عن أن لها أختا، لكن لم يشاهد السيدة تحية أبدا، يتدخل نجيب محفوظ مضيفا: آه.. مصطفى كاظم كان من شلة العباسية، وكنا نتقابل فى مقهى عرابى فى العباسية، كانت شلة للتسلية والمرح وتفرقت كلها، يعلق د.خالد: الوالدة كانت تعيش عند شقيقها خالى عبد الحميد كاظم الله يرحمه، وأنا يا أستاذ أتمنى ان أحصل منك على الثلاثية «بين القصرين، السكرية، قصر الشوق» وعليها إهداء بخط إيدك، يرد نجيب محفوظ: عينى، عينى يا سلام، اعتبر الثلاثية موجودة عندك وعليها الإهداء.
كانت سيرة جمال عبد الناصر تفرض نفسها على الجلسة، رغم حرص خالد من البداية على أن تكون إنسانية وحميمية، وليست سياسية، قال هشام السلامونى: دكتور خالد ابن جيلى وهو كان زميلا فى جامعة القاهرة يدرس الهندسة، والحقيقة أنه اشترك معنا فى المظاهرات التى خرجت من الجامعة احتجاجا على الأحكام الصادرة ضد قادة الطيران الذين تسببوا فى نكسة يونيو1967، تتدخل فريدة الشوباشى قائلة: المخابرات الأمريكية والبريطانية والموساد كانوا يتكلمون عن أن الحراسة على جمال عبد الناصر، هى التى كانت تحميه، وتأكدت من كذب هذا الكلام فى جنازة الفريق عبد المنعم رياض (رئيس أركان حرب القوات المسلحة)، بعد استشهاده على الجبهة يوم 9 مارس1968، كنت واحدة من مئات الآلاف الذين خرجوا بعفوية فى ميدان التحرير وشوارع القاهرة نشارك فى الجنازة، أنا كنت فى ميدان التحرير عند مسجد عمر مكرم، شاهدت عبد الناصر فى مقدمة الجماهير الحاشدة، وفى لحظة وجدته يذوب فى وسط الناس، الكل يتدافع عليه ويقترب منه ليقول له: «البقية فى حياتك يا ريس»، وأكثر شىء هز أعماقى أننى رأيته يهتف معنا كل هتاف نردده: «التار.. التار.. التار»، يعلق الغيطانى: فريدة تحكى عن لحظة مؤثرة فى تاريخنا المعاصر، عبد المنعم رياض أحد أهم الرموز العسكرية المصرية والعربية، والجنازة كانت شيئا خرافيا، شعب كان ينتفض غضبا ويطالب بالثأر هى كانت لحظة توحد بين عبد الناصر والشعب، وحكاية الحراسة، عمرها ما زادت على ثلاثة أفراد، أنا كنت أشاهده مباشرة فى الشارع، وهو يأتى إلى مسجد الحسين، حراسة بسيطة، موتوسيكلين مثلا أو ثلاثة.
يستفسر الأستاذ نجيب من يوسف القعيد عن آخر الأخبار، فيطلعه القعيد على بعض الأخبار المحلية والعالمية، قائلا: على فكرة انت يا أستاذ مرشح لجائزة جديدة فى الأدب تحمل اسم الرئيس مبارك، ومرشح معك الدكتور شوقى ضيف، والدكتور عبد القادر القط، وأنا رأيى يا أستاذ تعتذر عنها، يسأل نجيب: «ليه يا يوسف»، يرد يوسف: بعد نوبل أى جائزة ليس لها قيمة، والمنافسون أقل منك فى المستوى، والمؤكد أنك ستكسبها، يرد نجيب: لا.. لا.. يمكن المنافس يكسبها، وبعدين لا يصح أن أرفض جائزة تحمل اسم الرئيس مبارك، الرئيس بيشجع المناخ الثقافى دائما بهذه الخطوات، ولما أرفضها أكون بقلل من هذه الجهود، لا..لا.. يا يوسف، يقول يوسف القعيد: على فكرة ثروت أباظة مرشح للجائزة لكن هو قال: «مادام أستاذى نجيب مرشحا للجائزة أنا أتنازل عنها»، يرد نجيب: أنا أصلا اعتزلت الكتابة، والسبب ده ممكن يعطى فرصة المكسب لثروت، تسأل فريدة الشوباشى الدكتور خالد عن رأيه فى هجوم ثروت أباظة الدائم على جمال عبدالناصر، فيرد خالد باقتضاب: «أنا لا أقرأ له».
يلتفت يوسف القعيد إلى نجيب محفوظ ويقترب من أذنه قائلا: نحن سعداء بلقائك بالدكتور خالد عبد الناصر، وانت يا أستاذ صحيح وفدى، لكن بداخلك جزءا ناصريا لا تنكره، يرد نجيب محفوظ: آه.. آه.. طبعا يا يوسف.. وكل كلام خالد عنى فى منتهى النبل، يداعب يوسف القعيد الأستاذ: إيه رأيك نستغل وجود الدكتور خالد ونأتى لك باستمارة عضوية فى الحزب الناصرى، يسرع خالد بالتدخل قائلا: لا.. لا.. يا أستاذ أنا أصلا مش عضو فى الحزب، يندهش نجيب محفوظ: معقولة يا خالد، أنا أحسبك كتبت استمارة معاهم، يرد خالد: بمناسبة الحديث عن الأحزاب، انت يا أستاذ ملك مصر كلها ولا يستطيع تيار سياسى واحد ادعاء أنك تابع له، أنت فوق كل الأحزاب، وفوق التيارات السياسية، وأقوى بأعمالك الأدبية التى يخلدها التاريخ، رواياتك هى الباقية، أما الأحزاب فيمكن إلغاؤها بقرار سياسى من الحكومة، أو حتى من أعضاء الحزب، أما أعمالك الأدبية فلا يستطيع أحد أن يشطبه بقرار، ويا أستاذ أنا أقول لك بصدق: «الأحزاب هى التى تسعى إليك وليس العكس»، يهز نجيب محفوظ رأسه قائلا: الله.. الله.. يا خالد.. هو الأدب صح زى ما انت بتقول هو الباقى، وفيه ناس تانية لهم أعمال أدبية تستحق كلامك.
يتدخل الغيطانى سائلا: الحقيقة أن الدكتور خالد قال كلاما مهما ويفتح الشهية لكلام آخر يمكن أن يقال، وبمناسبة هذا اللقاء أسأل الأستاذ نجيب: هل كنت عضوا فى حزب الوفد قبل ثورة يوليو1952؟.. رد الأستاذ: لا..لا.. لكن الناس على أيامنا كانت كلها وفدية، تقدر تقول يا جمال أنا كنت من جماهير الوفد، وبعدين يوليو ما كانتش جت، يسأله الغيطانى: ولا كنت عضوا فى الطليعة الوفدية يا أستاذ؟، يجيب: لا.. أنا كنت متعاطف معاها قوى، وكان الدكتور محمد مندور صديقى (أبرز قادتها)، وعبد القادر جمعة، وكان صديقى أيضا، وعلى فكرة يا جمال هما كانوا بينادوا بالمبادئ اللى طبقها جمال عبد الناصر، يسأله أمين اسكندر: ما هى مبادئ الطليعة الوفدية يا أستاذ اللى طبقها عبد الناصر؟، يجيب: كانوا بينادوا بالاشتراكية والعدالة، وطبعا هو ده الكلام اللى طبقه عبد الناصر.
كان نجيب محفوظ يسرد بعضا من ذكرياته، و يتحدث بيقظة رغم وطأة الشيخوخة التى زحفت على قوة السمع والبصر، لكنها لم تزحف إلى الذاكرة، وأمامه كان فنجان القهوة لا يزال موجودا رغم مرور وقت ليس قصيرا عليه، لم يتناول شيئا غيره، لكنه أشعل سيجارة «كنت» أخرى، وهنا انتقلت دفة الحديث نحو خالد عبدالناصر، بسؤال من أمين اسكندر: «هل تتذكر يا دكتور خالد شيئا عن نجيب محفوظ وجمال عبد الناصر؟»، يجيب خالد: ذكريات كثيرة، منها مثلا أنه فى منزل منشية البكرى الذى كنا نقيم فيه، كان عندنا سينما فى البيت لأن الوالد كانت من ضمن هواياته فى أوقات فراغه القليلة مشاهدة الأفلام السينمائية، وكانت أفلام الأستاذ نجيب مقررا علينا مشاهدتها خمس أو ست مرات، لأن الوالد كان يحب روايات الأستاذ وأفلامه، وكلما كان يشاهدها كنا طبعا نشاهدها معه، يسأله الغيطانى: هل كنت تكتفى يا دكتور خالد بمشاهدة السينما فى منزل منشية البكرى؟، يرد خالد: لا.. لا.. كنت أتفرج فى سينما عامة مع أصدقائى، وأنا شاب كنت أحب مشاهدة السينما، وأمارس حريتى قدر الإمكان، شرط عدم التعامل على أننى ابن رئيس جمهورية فهذا كان خطا أحمر لا يسمح الوالد بتجاوزه أبدا.
يلتفت يوسف القعيد إلى نجيب محفوظ، ويسأله: «أستاذ نجيب.. هل قابلت جمال عبد الناصر؟، يهز نجيب محفوظ رأسه متذكرا: «تقصد يا يوسف زيارة الأهرام».
يسأله يوسف: ماذا حدث فى هذه الزيارة؟، يرد نجيب محفوظ: كان الرئيس يزور مبنى الأهرام الجديد وكان معه الأستاذ محمد حسنين هيكل رئيس التحرير، وفات على حجرة الأدباء وسلم علينا، سأله القعيد: الرئيس سلم فقط، يعنى لم يكن هناك كلام أو حوار، ومن هم الأدباء الذين كانوا معك؟، يرد الأستاذ: كان موجود الدكتور حسين فوزى، وصلاح جاهين وصلاح طاهر، وقال لى: «من زمان»
«ما قريناش حاجة لك»، فرد هيكل: «له قصة بكره فى الأهرام تودى فى داهية»، ضحك عبد الناصر وقال لهيكل «توديك إنت»، انتهى نجيب محفوظ من سرد قصته لكن الجدل حولها لم ينته فى الجلسة، قال يوسف القعيد «الأستاذ هيكل يجزم بأن ما نسب إليه، وما نسب إلى عبد الناصر لم يحدث، ومن رابع المستحيلات أن يقوله عبدالناصر، وأن مناسبة الافتتاح لا يمكن أن يقال فيها مثل هذا الكلام»، اكتفى نجيب محفوظ بهز رأسه تعليقا على كلام يوسف القعيد الذى أضاف: «الرواية اللى تحدث عنها الأستاذ هيكل كانت «أولاد حارتنا»، وكانت أول عمل أدبى للأستاذ بعد ثورة يوليو.
يستأذن خالد للانصراف، ويعانق نجيب محفوظ بحرارة قائلا: «إحنا كلنا بنحبك يا أستاذ»، فيرد نجيب: «أشكرك يا خالد يا ابنى على الخطوة دى، باركتنا ربنا يخليك، ويبارك فيك»، يخرج خالد وفى صحبته جمال الغيطانى ويوسف القعيد وفريدة الشوباشى، وعلى باب المركب، قال الغيطانى: «على فكرة يا دكتور خالد لولا عبدالناصر ماكنتش اتعلمت»، فيكمل يوسف، ولا أنا ولا كنا حتى دخلنا مدارس»، وتدخل فريدة على نفس الخط قائلة: «وأنا كمان»، كان صوت أم كلثوم يتسلل عبر الراديو: «ذكريات.. داعبت قلبى وفكرى»، وخالد ينظر إلى الثلاثة معلقا بصوت منخفض، حزينا، عميقا: «عبد الناصر كان راجل جدع مبتسم طيب، عمره ما نسى أصله ولا ناسه والغلابة كانوا همه الكبير فى كل شىء.. وياريت الأستاذ نجيب يكون مبسوط من زيارتى.. رد الغيطانى والقعيد والشوباشى: أكيد.. أكيد».
لمعلوماتك...
◄1911 العام الذى ولد فيه نجيب محفوظ يوم 11 ديسمبر
◄30 أغسطس اليوم الذى رحل فيه عام 2006
فى الذكرى الثالثة لرحيل الروائى الكبير
قصة علاقة عائلة الزعيم عبد الناصر ونجيب محفوظ
الجمعة، 18 سبتمبر 2009 12:30 ص
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة