يسرى فودة

فاروق شوشة ورائحة المسك مثالاً

الثلاثاء، 12 يناير 2010 07:26 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
هذه دعوة متعمدة مع سبق الإصرار والترصد للهروب من الواقع الذى نعيشه ولو للحظة أو لحظتين كل يوم. فأحياناً نحتاج إلى أن نعلن لأنفسنا أمام أنفسنا رفضنا للتشوه القيمى ولانحسار الجمال عن حياتنا اليومية، حتى نستطيع أن نتعامل مع القبح فى حياتنا اليومية، ونحن على وعى بما نفعل. هذه مرحلة فى منتهى الدقة، وهى مرحلة يمكن أن تكون فارقة بين أن نستمر فى معايشة القبح «اضطراراً» إلى أن يمل منا القبح، أو أن يصير القبح جزءًا منا، ونصير نحن جزءًا منه فلا نستطيع حتى أن ندرك أنه موجود.

ولأننا بشر يصيبنا الوهن أحياناً وتتحكم فينا الحاجة أحياناً أخرى، فإن من المفيد أن يستقوى المرء ببعض المصادر التى تعينه على السير فى شوارع القبح دون أن يفقد روحه أو دون أن يفقدها كلها على الأقل، بعضنا يتمتع بإرادة أقوى من الآخر فيسهل عليه إلقاء القبض على الأمل، وبعضنا يجد فى العقيدة الدينية أو الفكرية ملاذاً فيسهل عليه كشط دهون القبح من على صفحة الروح قبل أن يخلد إلى نوم عميق، وبعضنا يقوم بتفعيل ذاكرة قادرة على انتخاب الجميل من ذكريات الأمس، فيسهل عليه اتخاذها وقوداً لمصباح الغد، وبعضنا الآخر يضع نصب عينيه نماذج من البشر احتفت بالجمال واحتفى بها الجمال فتسهل عليه رؤية مسار واضح خضع لاختبار التجربة.

ثمة مصادر أخرى بكل تأكيد، وهى تختلف من حالة إلى أخرى، فاسمحوا لى أن أنتخب اليوم من بينها جميعاً ذلك المصدر الأخير وأن أضع أستاذنا الجميل فاروق شوشة منه موضع القلب. ولا يجىء اختيارى هذا لأن علاقة خاصة جميلة جمعت تلميذاً بأستاذه فى جامعة القاهرة وحسب، أو عبر أثير الإذاعة المصرية حين أشعت قيم الجمال على جيلين على الأقل من أجيالنا فى الساعة الحادية عشرة إلا عشر دقائق كل ليلة من ثنايا برنامجه «لغتنا الجميلة»، بل لجملة أخرى من الأسباب أراها أكثر أهمية فى سياقنا هذا.

أولاً، لأن الشعر هو أكثر الفنون العربية أصالة؛ منه المبتدأ، وفيه الخبر وإليه الذوق، وعلى محكه يمكن دائماً فهم الإنسان العربى. وثانياً، لأن فاروق شوشة الشاعر هو أيضاً فاروق شوشة الإنسان؛ لا انفصام بينهما؛ فالشعر لديه أسلوب حياة والذوق دستورها على صفحة الورق وفى دهاليز الحياة، فى لحظة الأمل وفى لحظة الإحباط. وثالثاً، وهو ما قد يكون أكثر أهمية فى هذا السياق، لأنه جمع بطريقة مدهشة بين هذا الجمال كله وشجاعة الاستمرار فى معايشة الواقع بأرذل تفاصيله إلى أن ترك موقعه رئيساً للإذاعة المصرية ونائباً لرئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون.

ذلك أن الوصول إلى منزلة وظيفية مرموقة كهذه فى أروقة جهاز تقبض الدولة عليه من أعلى ومن أسفل ويمتلئ بالمنافقين والأدعياء والضاربين أسهماً من الخلف والذين لا يستحون، فى حد ذاته إنجاز ضخم، لكنه يصبح إنجازاً ضخماً من نوع خاص مدهش حين يستطيع المرء وسط أجواء كهذه أن يحتفظ بروحه شفافة وبقلبه عامراً بالإيمان وبقيم الجمال.

من السهل أن يعتزل المرء مجتمعاً امتلأ قبحاً وفساداً فى محاولة للاحتفاظ بروحه؛ فهذا ما يريده القبيح والفاسد على أية حال، غير أن تجربة كتجربة أستاذنا الجميل فاروق شوشة لابد أن تمنحنا جميعاً الأمل فى أنك حتى إذا اضطررت إلى الوصول إلى مقر عملك عن طريق إحدى شبكات الصرف الصحى يمكنك فى الوقت نفسه أن تخرج من الناحية الأخرى وأنت تعبق برائحة المسك.








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة