ربما نكون قد وقعنا فى الاستسهال إذا اعتبرنا أن مصطلح "كيتش" الذى يتداوله بعض "مثقفى وسط البلد" من الشباب هذه الأيام، هو مرادف لمصطلح "بيئة"، الذى وسع استخدامه فى مصر خلال السنوات الكثيرة الماضية. والذى يقصد به كما يعرف الجميع الشىء أو الشخص الشعبى الردىء، وهو بالطبع كلمة انفلتت من شبه جملة، وموصوف تخلص من صفته، حيث كان يجب أن يوصف، ولكنه تخفف اختصاراً من أن يقال "بيئة واطية" –مثلا- ليصبح بيئة فقط، وعليك أن تفهم أنت ما هو المقصود، وبهذا ذهبت مصطلحا.
أما "الكيتش" فى رأيى ورأى العديد من خبراء المنحوتات الشبابية الجديدة فى اللغة والحياة، هو مصطلح أكثر عمقا وأوسع قاعدة، بل ويختلف عن "البيئة" فى كونه ليس بيئة تماما، أو أنه بيئة ويريد ألا يكون كذلك، أو أنه ليس بيئة، ولكن الظروف جعلته أقرب لذلك، فأصبح "كيتشًا"– ولا أدرى هل يجوز إعرابها أم لا ولكنى سأعربها، أو أنه بيئة والجميع يعلم أنه بيئة لكنه لا يريد أن يعرف أحد أنه بيئة، فأصبح "كيتشًا"، أو أنه بيئة ويعلم أنه بيئة، ويعلم أن الجميع يعلم أنه بيئة، ولكنه لا يريد أن يكون كذلك فسلك مسلكا تجميليا فأصبح "كيتشًا".. أى أن الكيتش ربما يكون فى جوهرة "بيئة" يحاول التجمل أو التنصل، أو أنه هو "كيتش" بذاته، أى "كيتش" أصلى وأصيل.
وللحقيقة فإن الكلمة ليست اختراعا شبابيا لبعض المثقفين أو المتثاقفين الجدد، ولكنها كلمة ذات أصل ألمانى (Kitsch) وتعنى الفن الهابط، وإذا مصرناه فيمكن أن يقال له "الفن البيئة".
ومن بين كل التعريفات يمكن أن نستخلص أن "الكيتش" هو الشىء أو الشخص الذى يبرق وليس ذهبا، أى فالصو، أو أنه الشىء الردىء والرخيص إجمالا، والذى يشبه بعض الصناعات الصينية البلاستيكية التى طغت على كل شىء فى حياة المصريين. وهى تلك الحالة التى زُرعت فى مصر منذ عصر الانفتاح الساداتى، حيث علا السفلاء، فأصبحت –أى الحالة- تؤتى ثمارها المتنوعة والماسخة عبر السنوات الأخيرة التى ساد فيها التفهاء.
وحقيقة الأمر أنه رغم ما يحمله مصطلحا "بيئة، وكيتش" من استهدافات عنصرية وإسقاطات طبقية، ربما تعطى لمستخدمها صفةً منحولةً كانت أو أصيلة، إلا أنه ربما يشير من جهة أخرى إلى بزوغ طبقة أو فئة متعالية اجتماعيا أو ثقافيا، أو أنها تحاول التعالى تطلعا أو واقعا، ولكن الأعجب أن تطفو تلك المصطلحات على سطح المجتمعات (الثقافية) الشبابية الجديدة، وفى تجمعاتهم التى انتشرت فى أركان وزوايا منطقة وسط القاهرة، فيما يشبه قطع الموزاييك المتشابهة، حيث تجد هؤلاء متشابهين فى أشكالهم وملابسهم وتعبيراتهم واهتماماتهم، وحتى طريقة تدخينهم للشيشة ورؤاهم التقدمية، أو التى يرونها كذلك، فى الفن والدين والسياسة والحياة.
وقد لا يبذل المتأمل والمدقق لحال تلك التجمعات الجديدة التى انتشرت فى مجتمع الصحفيين والمثقفين ومتعاطى الأدب والموسيقى وبعض أنواع المخدرات والمسكرات الجدد، قد لا يبذل جهدا كبيرا فى اكتشاف حالة التعالى التى تجتاح هؤلاء، إما بوعى أو مجاراة للموضات التى تنتشر بينهم، والتى بلغت حد تحويل بعض الأفلام إلى هوس، وبعض الموسيقى إلى صرخة، وبعض الكتاب إلى صرعة، مثل ميلان كونديرا وباولو كويلو على سبيل المثال، حيث الأول هو من يعود إليه سبب انتشار الكلمة فى أوساط هؤلاء، باعتباره أول من حررها من معناها الأصلى "الفن الهابط"، لتشمل كل ما أو من هو هابط فى شكله أو سلوكه أو مضمونه.
ومن كونديرا راح هؤلاء يتبادلون الكلمة ويتناقلونها، وكأن هناك من ينادى فيهم أو أنهم يتنادون فيما بينهم عبر المدونات، حيث لكل منهم واحدة أو أكثر، أو عبر الفيس بوك الذى يشغفهم ويشغفون به، وأحيانا بعض الملصقات المنسوخة التى توزع وتعلق على الأشجار وأعمدة الإنارة وجوانب من جدران المقاهى التى أصبحت مخصصة وبنسبة كبيرة للمثقفين الجدد ومناقشة أعمالهم التى بنسبة كبيرة تشبههم، أو أنها بنسبة كبيرة أيضا قد لا تبتعد كثيرا عن المصطلح ذاته.
ومن تلك الحالة التى قد يعتبرها مثقفون آخرون هى خير مثال لحالة "الكيتش" التى تعيشها مصر منذ سنوات طويلة، حيث الواقع المتردى الذى تشهده الدولة بأكملها منذ سنوات، يؤكد أن قيم "الكيتش" هذه باتت هى السائدة فى كل جوانب الحياة، اجتماعيا وسياسيا وإعلاميا وثقافيا وفنيا ورياضيا. فلا يخفى على أحد ما بات يعانيه الشارع المصرى من تردى زحف من قمته ومن قاعه فى آن معا، ليلتقيا فى أوسطه فيضربانه فى مقتل، ليتحول هذا "الوسط" إلى حالة مترنحة بين المشوه وبين المشوش، وهو ما تمثله وبالتحديد حالة "الكيتش" فى جوهره ومخبره، ليصبح القابض على قيمه الأصلية ومبادئه الراديكالية من هؤلاء الأواسط كالقابض على سلك كهرباء عار فى سوق الجمعة بالسيدة عيشة.
فالخطاب العام لمصر الرسمية والشعبية هو فى حقيقته الآن ومنذ سنوات خطاب "كيتش"، قد ينحدر ليكون خطابا "بيئويا" فى كثير من الأحيان، فنبرة التعالى والغرور التى اجتاحت المصريين فى خطابهم للجزائر إبان واقعتى كرة القدم بين الفريقين، لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون شيئا آخر غير ذلك، وهو ما لا يمكن أن تستثنى منه أحدا فى أرض الوطن، إلا بعض هؤلاء من محتضنى سلك الكهرباء فى سوق الجمعة، والذين كما يفر منهم الناس، يحاول آخرون تخليصهم من "صعق القيم القديمة" بضربهم بالعصى أو دفعهم بقوة حتى يفلتوا من الكهرباء. فيما اُتِهم من نجا بنفسه بالعمالة والخيانة أو قلة الوطنية والانتماء على أقل تقدير.
وإذا قارنا التصريحات الرسمية لأى مسئول أو وزير أو كبير، وبين الواقع الذى نحياه ونعيشه ونراه رؤيا العين فسوف نعرف من هذا الفرق الشاسع مدى ما نحن فيه من حالة "كيتشية" متأصلة فى المجتمع والوطن ككل. فالمسئول دائما يتجمل بالكذب، بينما الواقع قبيح، والحكومة تدعى لنفسها ما ليس فيها، والحزب الحاكم يحاول أن يرتدى أجمل حلله أمام الناس، بينما الناس جميعا يعرفون حقيقته، أنه تجمل زائف ولمعان فالصو، إنه مجرد "كيتش".
ومن يسمع الكثير من الفنانين والرياضيين وأنصاف المثقفين والمتثاقفين الذين تعج بهم مقاهى وسط البلد وغيرها، والعديد من الصحفيين الموظفين فى المؤسسات الحكومية، والآخرين الذين تركوها ومازالوا يتمرغون فى ترابها الميرى، أو الذين يشترون ذلك التراب بأى ثمن. من يسمع كل هؤلاء ويتأملهم بإنصاف سوف يكتشف أنهم جميعا مجرد "كيتش"، ولكن حالة الدولة "الكيتشية" التى نعيش فى ظلها الآن، رفعتهم جميعا على السطح، وجعلتهم نجوما وصفوة، ولا يدرك أحد، وربما لا يعنيه، أن تلك الحالة "الكيتشية" لن تأتى بمستقبل حقيقى لهذا الوطن، ولكنها للأسف الشديد تحوله إلى وطن "كيتش" سوف يفسد تلقائيا، أو يتآكل بالتقادم، مثل كل البضاعة الرخيصة التى تحتل الحياة فى مصر منذ أكثر من ربع قرن.
• صحفى مصرى "جريدة المدينة السعودية"
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة