تتصاعد فى هذه الأيام فى وسائل الإعلام، وبخاصة الأوروبية والأمريكية، تحليلات حول الرئيس المقبل لمصر بعد الرئيس مبارك الذى لم يحدد موقفه من الترشح فى الانتخابات الرئاسية القادمة سنة 2011م ، وتتردد أسماء جمال مبارك، أيمن نور، محمد البرادعي، عمرو موسى... وآخرين.
إن الأحداث الآن فى مصر تنم عن عشوائية التفكير التى نمتع بها نحن سكان وادى النيل منذ تاريخ طويل. و هذا من طبيعة سمات تفكير الحضارات التى نشأت على ضفاف الأنهار، فإن إبراز بعض الأسماء لخوض انتخابات الرئاسة لهو دليل عن عدم قراءة أوضاع مصر قراءة صحيحة، فمصر ليست الدولة التى من الممكن التى يترك كرسى الحكم فيها للصدف والاحتمالات، فكما قال واحد من الساسة الأمريكان " إن مصر ليست الإمارات فإذا وصل الإسلاميون إلى الحكم فلن نجد لنا موطئ قدم فى العالم العربى، لأن تغيير الحكم فى مصر سوف يؤدى إلى تغيير الحكم فى معظم البلاد العربية".
إن أهل الحكم فى مصر لن ينتظروا حتى يضيع الحكم من بين أيديهم , نتيجة لآراء بعض الشباب على الفيس بوك أو لآراء بعض الأحزاب فى ترشيح فلان إن وضع مصر ليس هو وضع دولة فى مجاهل إفريقيا أو أمريكا اللاتينية , حتى يكون الحكم فيها مجرد عن الحسابات الدولية والأوضاع الإقليمية، إنها مصر رغم كل الانهيار، حقاً إن المؤشرات كلها تشير إلى أن 29عاما من حكم مبارك أدت إلى ضعف الدور المصرى وانحساره وانسحابه أحيانا عربيا وإقليميا فى القضايا الحيوية والإستراتيجية والذى ظهر واضحا فى الحرب الإسرائيلية على غزة , ولا يختلف الأمر داخليا فسيطرة رأس المال وتوحش تعامله مع مقدرات الناس وفساده السياسى والأخلاقى والاقتصادى والفكرى، مدعوما من الحكومة ورجالات الحزب الوطنى الحاكم ، وتضاعف معاناة الناس جراء الارتفاع غير المبرر للأسعار فى كل شيء من مأكل وملبس ومسكن، وتدنى مستوى التعليم، وانحطاط الأجور، وانتشار الرشاوى والمحسوبيات وضعف قوة القانون، والنفاق السياسى والتشريعى، وغير ذلك مما يفهمه ويعانى منه الشعب المصرى، ورغم ذلك هى مصر الدولة الكبرى فى العالم العربى، وهى بوصلة السياسة فى العالم الإسلامى , و هى واحدة من أهم تسع دول محورية فى السياسة العالمية كما صنفها "بول كيندى " فى كتابه "الدول المحورية "، كل هذا يجعل التغيير فى حكم مصر شيء ليس بالسهل، ولن يترك لأى خطط لن ترضى عنها الدول الكبرى أن يكون حكم مصر خارج عن الحسابات الدولية و المصالح العالمية.
إن اختيار جمال مبارك لحكم مصر فى الفترة المقبلة لم يكن مجرد ترشيح من والده فقط , و لكنه خضع لعملية شد وجذب شديدة داخل الإدارة الأمريكية , و كان الرفض هو القاسم المشترك فى جميع محاولات إقناع الإدارة الأمريكية به لرغبة الأمريكان فى تولى رجل عسكرى حكم مصر، حتى لا يقفوا فى وجه توليه زمام الحكم و منذ فترة ليست بعيدة بدأ الساسة الأمريكان يتفهمون أن وجود رجل مدنى على رأس الحكم فى مصر سوف يصب فى الدعوى الزائفة من جانب الأمريكان لنشر الديمقراطية و الحرية . و على هذا بدأ الترويج لجمال مبارك من كثير من وسائل الإعلام الأمريكية خاصة القريبة من دوائر صنع القرار و لا يقول قائل أن الإعلام الأمريكى حر فى توجهاته و ليس مثل الدول العربية , نقول إن هذا ليس صحيحاً فالكاتب الأمريكى المعروف روبرت فيسك قد اعترف انه طلب منه من جهات رسمية و بدعم من السفارة الأمريكية فى القاهرة , بعدم نشر أى مساوئ عن الحكم فى مصر وحتى إن وسائل الإعلام الأمريكية الغير قريبة من الإدارة كانت فى معظم تقريرها عن مصر تتكلم عن جمال مبارك و تضع عبارة " وهو المرشح أن يخلف والده فى الحكم " من قبيل إنها تكهنات وليست معلومات أما على المستوى الداخلى فجمال مبارك يعامل الآن على أنه الرئيس المنتظر و يتدخل فى كل ما يمس الشئون الداخلية للبلاد وما زياراته المتكررة لكل القرى و المدن سواء فى الصعيد أو فى الوجه البحرى وكان أخرها فى محافظة الشرقية , إلا للوقوف على الحالة الداخلية للبلاد و لإيجاد تأييد شعبى من داخل الشعب المصرى ألا وهو طبقة الفلاحين و الفقراء و هم فى مصر كثيرون , إن تدخل جمال مبارك فى تعيين وزراء , و فى تعيين أعضاء مجلس الشورى الحالى، لهو ينم عن إشارة إلى طريق كيف ستحكم مصر فى الفترة المقبلة و من هو الحاكم الفعلى للبلاد، و إن الرئيس الشاب الذى لا يلقى بالاً للمعارضة و لا للأحزاب ومؤسسات المجتمع المدنى، وينظر إليهم نظرة دونية كما حدث فى مؤتمر الحزب الوطنى الأخير، واعتبار كل هؤلاء مغرضين و لهم مطامع فى حكم مصر، سواء أكان التيار الدينى المتمثل فى الإخوان المسلمين , أو حركات مثل كفاية أو ضد التوريث أو أحزاب مثل الناصرى أو التجمع، أما الحزب الوطنى و بطانته من أهل المال والأعمال فهم يخدمون مصر و ليس طمعا ً فى أى شىء . إن الحالة السياسية المزرية التى وصلت إليها مصر فى السنوات الماضية، والاستبداد و التسلط الذى تعاملت بهم القيادة السياسية للبلاد مع كل ما هو ضد نظام الحكم، لهو أكبر دليل على تمهيد الطريق لشخص بعينه و منع كل من يحاول التصدى للشأن السياسى من العمل أو حتى مجرد الدعوة لعمل سياسى، من شأنه أن لا يصب فى مصلحة النظام القادم و رئيسه المنتظر.
إن المتابعة السياسية لما يحدث فى مصر تُرجِّح أن صاحب الحظ الأوفر بعد حسنى مبارك هو جمال مبارك، ويدل على هذا عدد من المؤشرات:
أولاً: إن أمريكا مهتمة بأن يخلف جمال والده، ومن مؤشرات هذا الاهتمام:
1- إنه يُفهم من مواقف الأمريكيين أنهم يريدونه، وانه هو مرشحهم القادم، ولكن الإدارة الأمريكية لا تظهر ذلك حتى يظهر للناس أن جمال مبارك لم يأت بإرادتها، وإنما جاء عن طريق اللعبة الديمقراطية، وحتى لا تحرقه ويقوى من يُعارضه، فهى تدعو جمال مبارك لزيارتها كما تدعو غيره لتجعل ترشحه طبيعياً! ولو أن أمريكا لا تريده لقامت بحملة شعواء ضده.
2- وفى 5/3/2009 زار جمال مبارك أمريكا واجتمع مع عدد من القيادات فى مجلس الشيوخ ومجلس النواب منهم السناتور جون كيرى رئيس لجنة العلاقات الخارجية فى مجلس الشيوخ ومنهم النائب هاوارد بيرمان رئيس لجنة الشؤون الدولية فى مجلس النواب.
3- وقد نشرت صفحة "آرابيان بزنس" فى 7/11/2009 تقريرا عن الكونغرس الأمريكى أنه يتوقع أن يكون جمال مبارك نجل الرئيس المصرى حسنى مبارك وأمين السياسات بالحزب الوطنى هو مرشح الحزب فى الانتخابات الرئاسية عام 2011.
4- إن الخوف من الزائر الذى لا يستأذن قبل أن يأتى، قبل مجيء الانتخابات القادمة، فهى تعد العدة لذلك، وهى تهيئ الأشخاص المحتملين و المؤيدين لسياستها ، وأكثرهم احتمالية حاليا هو جمال مبارك.
ثانياً: اهتمام النظام المصرى بإعداد جمال ليكون الرئيس بعد والده، ومن مؤشرات هذا الاهتمام:
1- لقد رقّى النظام جمال مبارك إلى مناصب يتخذ فيها قرارات مثل ترؤسه للجنة السياسات للحزب الوطنى، وكذلك ترقيته إلى الأمين العام المساعد للحزب الوطنى الحاكم. وقد علت مؤخرا أصوات من أعلى المناصب فى الدولة بترشيحه لرئاسة الدولة؛ فقد صرح احمد نظيف رئيس الوزراء المصرى قائلا:" إن جمال مبارك مرشح لخلافة والده فى الانتخابات الرئاسية المقبلة فى عام2011". (صفحة راديو هولندا 28/10/2009) و نفس التصريح جاء على لسان الدكتور حاتم الجبلى ( قناة الحياة ).
2- والنظام فى مصر يعطى كل الإمكانيات وكثيرا من الصلاحيات لجمال مبارك لإبرازه بأحسن صورة حتى يجعل الناس يتقبلوه، بتلميع صورته. فبدأ جمال مبارك يظهر على انه يهتم بمشاكل الناس ويعالجها، فيظهر أنه يهتم بالفقراء ويساعدهم وكذلك بالطلاب ويحل مشاكلهم، فبدأ يستخدم الانترنت تقليدا لأوباما ليجيب على مشاكل الشباب. ويفتعل النظام مشاكل حساسة لدى الناس ويتيح المجال لجمال مبارك ليحلها مثل مشكلة البث الحى لنقل مباريات الدورى المصرى لعام 2009، ومثل مشكلة دعم الاسمنت عام 2009. وظهرت جماعات تؤيد خلافة جمال مبارك لأبيه مثل جماعة "نعم" يرأسها قبطى اسمه ممدوح زخارى جرجس. وجماعة " أحرار" توزع منشورات وملصقات تحمل عبارة" جمال مبارك.... حلم جميل لبلد أجمل". ويقول مؤسسها عادل سيد وهو طبيب شاب أن الحركة تأسست عام 2006 وان عدد أعضائها بلغ 40 ألفا أكبرهم سنا لا يتجاوز الثلاثين عاما وغالبيتهم من طلبة الجامعة" (الجزيرة 10/9/2007) وبجانب ذلك ظهرت "مجموعة شباب يقودهم نائب سابق يرتدون قمصانا كتب عليها" حب وإخلاص ووفاء..... طلائع جمال مبارك". حيث ظهرت فى قرية النجاح فى محافظة البحيرة وجمال مبارك يلقى كلمة هناك فى مؤتمر شعبى وحشد من الوزراء". (الجزيرة 3/9/2009) وكل ذلك يحدث تحت سمع وبصر النظام، بل وبتخطيط منه.من كل ذلك يظهر أن النظام، ومن ورائه أمريكا، يهيئ الظروف لتسهيل وصول جمال مبارك إلى رئاسة مصر .
• باحث متخصص فى الإسلام السياسى
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة