لم تكن عزبة نجم بمحافظة الشرقية تعلم أن يوم 22 مايو عام 1929، هو اليوم الذى ستهدى مصر والوطن العربى شاعرا كبيرا هو أحمد فؤاد نجم، فى هذا اليوم ولد شاعرنا الكبير، وتوفى والده وهو فى السادسة من عمره من معاناة الفقر والعيش مع الفقراء.
بدأت رحلة نجم فى الحياة التى تحدث عنها فى جزءين من مذكراته التى حملت عنوان «الفاجومى»، وسبق نشرها منذ سنوات، تحدث نجم عن بدايته، منذ أن دخل الملجأ فى الزقازيق، وكان معه عصفور صغير سكن بغنائه قلوب من كانوا معه، وكان هذا العصفور عبدالحليم حافظ.
طاف نجم كما حكى فى مذكراته بالعمل فى السكك الحديدية، ثم طوافا للبريد، واكتشف من هذا الطواف كم كان الفقر ينهش فى جسد الفقراء، وتعامل مع السياسة على طريقته الخاصة، وهى الانحياز المطلق للفقراء مسلكا وانحيازا.
كانت رحلة نجم تنتظر فنانا بوزن وقيمة الشيخ إمام حتى تخرج أشعاره كنموذج فريد يعبر عن كل الفقراء الذين أخلص لهم، نجم الذى حكى فى مذكراته كيف كانت بدايته مع الشيخ إمام، وكيف سارت بهما الدروب فى أوساط اليسار المصرى.
نجم الذى اختصت «اليوم السابع» بالجزء الثالث من مذكراته، يكتبها بوصفه كما قال عن نفسه: «أنا فلاح مصرى، ومواطن عربى منتهك الأرض والعرض مكبل ومطارد.. أنا حفيد الفلاح الفصيح.. فلاح مصرى فاهم كل حاجة ولا أستطيع أن أبلع لسانى».
مع بدايات عام 1968 بدأت الدائرة تتسع حولنا كل ليلة فى حوش قدم أفواج من الناس تتقاطر على المنزل رقم 2 بعطفة «سعد العرسه» كل ليلة نشوف وجوه جديدة وكل ليلة المرحوم الشيخ إمام يتوهج ويبدع وأجهزة التسجيل شغاله على ودنه والمدهش أننا لم نشعر بأى وجود أمنى ربما لأننا كنا نعيش حالة من النشوة لمجرد تعارف المريدين على بعض كل ليلة.. كل ليلة أعرف ناس جداد واجعهم جرح الوطن العزيز محدش كان بيفكر فى الشهدا اللى ماتوا تحت جنازير الدبابات المصنوعة فى الولايات المتحدة من أجل سواد عيون إسرائيل وبدأنا نفتح على العالم ويتحرك ركبنا الميمون فى اتجاه الأصدقاء الجدد وكان أول خروج لنا من حوش قدم على يد الفنان عدلى رزق الله الذى كان يقضى معنا أكثر أوقاته وكان حينما يغيب يفتقده الجميع وأنا أولهم كان موجود عدلى رزق الله معنا عادة أدمنتها وذات ظهيرة قال لى عدلى بدون مقدمات
- يالا جهزوا نفسكم حنفطر الليله فى شقة العجوزة وشقة العجوزة دى فيها زى حوش آدم روح وونس.. أول سهرة فى شقة العجوزة جاءت بعد عشوة فلاحى أعدها وطهاها الأستاذ الحسينى صديق الشاعر الراحل محمد جاد الرب على اللى كان معسكر فى شقة العجوزة «الفورسيزون» زى ما بيقولوا أسيادنا البعده وكان فضلة خيرك فى القاعده عدد من المثقفين والمبدعين أذكر منهم الآن الاسكندرانى الجميل المصور الكبير أحمد نورالدين وكان حجازى الرسام ومحيى اللباد ومصطفى رمزى وقلت للشيخ إمام فى أذنه
- ماتصبحنا بشاى الألحان يا مصبحاتى العشاق
وفى تلك الليلة تعرفت على الشاعر محمد جاد الرب على من خلال قصيدة عامية مذهلة «يا أم المطاهر» وكنا فى حالة دهشة أمام شاعر بكاء يعلق على مظاهرات الطلبة المصريين التى خرجت فى كل العواصم والقرى المصرية تندد بعبثية الموقف الرسمى فى مصر المحروسة مما يجرى فى البلد على أثر الضربة العسكرية الصهيونية القاصمة وخرج شباب مصر المحروسة إلى الشارع ليهتف بعلو صوته «لا صدقى ولا الغول عبدالناصر المسئول» سبحان الله فى طبع الشعب المصرى المذهل إذا عشق غنى «مكتوب ادينا عبدالناصر عنينا مكتوب على قلوبنا عبدالناصر محبوبنا» دى قلناها لما الزعيم فكر فى الرحيل ما حد فيكى يا محروسة كان بيفكر فى نفسه ولا فى عياله كل الفكر كان مشغول بمعركة الثأر وتحرير فلسطين من هذه الشرذمة من الأفاقين وتجار السلاح والمخدرات والدعارة وتجارة الرقيق الأبيض.
لكن الشعب أول ما حس ان الموضوع اتلعب فيه واتفصل على مقاس نزعة الانتقام اللى مفروض تكون موجودة داخل كل المصريين وحين خرج أولادنا إلى الشوارع ليقولوا هذا الكلام فى شكل هتافات موقعة يصرخ بها الطالب المحمول على الأكتاف فيرد عليه جمع المسيرة وأحيانا أناس من الشارع يطربوا الهتاف بروح قايل معاهم وبعدين يفضل ماشى وياهم بيردد الهتاف مع زملائهم فى المسيرة أتارى الأمن كان متتبع المسيرة من بدايتها ولما العدد زاد بشكل ملحوظ جات الأوامر من الوزارة فتحوا خراطيم المياه على المتظاهرين العزل وقاموا بالقبض على عدد كبير منهم وأعلنت حالة الطوارئ ونامت البلد ليلة حزينة لكن حزن ميطمنش قامت لك الدولة شادة انتباه طويلة وطلعت الصحافة الموجهة تتهم شباب مصر بالخيانة والعمالة وحسبى الله ونعم الوكيل ووجد تنابلة المقاهى مادة لتضييع الوقت الممل فزادوا الطينه بلة وفوجئنا جميعا بالجدع الصحفى الناشئ محمد جاد الرب على يكتب قصيدة من عيون الشعر العامى فى مصر المحروسة فى موضوع الطلبة اللى كان مسميهم المطاهر واسمع بقى محمد جاد الرب على فى موضوع الطلبة إيه..
يا أم المطاهر رشى الملح سبع مرات
ومع الزغروطة
احكى حدوتة تعلب فات
الا المطاهر شافها مظاهر
طب سكات
وبايديه شرخ
بنيان وصرخ
وكتب وترح
ما احناش بقرات
يا ام المطاهر
>>
يا أم المطاهر رشى الملح وخبى عنيه
اتولد الحر ف ساعة ضهر وياختى عليه
لا يطيع ولا يسمع
ولا بيصدق كدب وليه
بيبص لأبوه
ويقول هوووه
ماله مغمى عليه
وهتنطق امتى يا ابي
وتقول ان احنا فى غابة
وشريعة الغاب مفرات
يا ام المطاهر
>>
أصل الحدوتة يا خالة ستوتة
الواد جاى لأمه
اتشحطر ياختي
ومين بقى يقدر يوم ويلمه
وأبوه قال ياختى
جاى
وعمه كان هيضمه
قال ابعده عنى
سيبونى أتمنى
قول يا مغنى موالك مات
وان كدب المغنى يكون المعنى
التعلب فات
وان فات التعلب فى ديله سبع لفات
فى اللغة الواحدة
يا أم مواحده
دول ربطولنا عشر نكسات
يا أم المطاهر
أخذتنى القصيدة وأدهشنى أداء محمد جاد الرب على الغاضب الساخر الواثق فقلت للشيخ إمام
- الحقنى يا إمام فضحك الشيخ إمام والسعادة تغمر وجهه
- أهى بلاوى بتتحدف علينا معلش
فقلت لمحمد جاد الرب على بصوت عالى
- يا ابن الكااااااااالب
فضج الحاضرون من الضحك
ودى كانت بداية علاقة ثرية وطويلة وصادقة رغم محاولات الثعالب الصغيرة إفساد الكروم التصق الشاعر الفلاح بسكان حوش قدم وجذبه سحر المكان أو «عبقرية» المكان على رأى عمنا جمال حمدان فأقام معنا فى شقة محمد على الذى وقع فى غرام محمد جاد الرب على وبادله محمد على الغرام ولكن على طريقته هو وحين سألت محمد على عن محمد جاد الرب على ضحك وقال
- ابن مجنونه لكن جميل
وفى هذه الأيام من عام 1968 كان الشعب المصرى يتعافى من دوار الصدمة العنيفة ويتجه بكل حواسه نحو القائد الذى وعد بالرد على ما جرى فى 5 يونيو 1967 حين قال فى أحد خطاباته المتلفزة
- ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة
وبدأ الشارع السياسى فى مصر المحروسة يتحرك ويتكلم ويبدع على سبيل المثال «فرقة أولاد الأرض» التى نشأت فى مدينة السويس التى كانت آنذاك تحتضن مجموعات من شباب مصر حملوا السلاح وذهبوا إلى قتال العدو المحتل هناك حيث هو وكان شاعر هذه الفرقة هو شاب اسمه عطية عليان وكان قائد هذه الفرقة يدعى «الكابتن غزالى» وكانت هذه الفرقة أثناء الاشتباكات تنتقل بين المواقع المصرية وهى تغنى للمقاتلين وكان أحد أعضاء هذه الفرقة «العربى بوف» وهو شاب مكفوف ومتيم بالشيخ إمام لدرجة أنه أخذ قصيدتى «كلمتين لمصر» من أحد أعداد مجلة روزاليوسف ووضع لها لحنا كان الطلبة يرددونه فى الفسحة فأعجبنى وحفظته وكنت أردده مع الطلبة المساجين فى ذات ليلة أبلغنى عدلى رزق الله أن العشاء الليلة والسهرة فى منزل الفنان الفلسطينى مصطفى الحلاج وحرمه الفنانة المصرية عفاف وكان الأكل هو اللى بيحصل فى جميع العزايم فى تلك الأيام عبارة عن بطاطس باللحمة سواء فى الحلة أو فى الطاجن أو فى الصينية قول هبدنا العشوة المتينة وشربنا الشاى والذى منه وبدأ الشيخ إمام يغنى وكلنا آذان صاغية وبدأ باللحن الجديد
يا أم المطاهر
رشى الملح سبع مرات
ومع الزغروطة
احكى حدوتة تعلب فات
الا المطاهر شافها مظاهر
طب سكات
وبايده شرخ
بنيان وصرخ
وكتب وترخ
محناش بقرات
وكان اللحن الجديد الثانى فى تلك الليلة لحن أغنية ميكى التى كتبتها للأستاذ محمد حسنين هيكل رئيس الصحافة المصرية آنذاك بعدما فقع مرارتنا بسلسلة مقالاته المحبطة التى تتمحور حول عبارة اخترعها الأستاذ هيكل تقول «منقدرش نناطح أمريكا» فى الوقت الذى كان أبناؤنا فى القوات المسلحة يصلون الليل بالنهار عند ساعة الحرب لكن يبدو أن الأستاذ هيكل مكانش عايش معانا وكان بيتعامل بألاطه مع كل الأشياء وكان حكيما فى ردود أفعاله وعلى سبيل المثال حين استمع مجلس الأمن القومى إلى تقرير مباحث أمن الدولة عن الثنائى الشيخ إمام ونجم وكان التقرير يتضمن بعض أغانينا المهذبة انتظر الجالسون ومنهم الرئيس جمال عبدالناصر تعليق الأستاذ هيكل على ما سمعه فقال:
- هذه صرخة جوع وسوف نقتلها بالتخمه بيتهيألى وأنا بسمع هذا الكلام ان موسيلينى هو اللى بيتكلم وعنها وكتبت
بصراحه يا أستاذ ميكى
انك رجعى وتشكيكى
قاعد لامؤاخذة تهلفط
وكلامك رومانتيكى
عن دور الحل السلمى
واستعماله التكتيكى
فى الوقت اللى احنا صراحه
دايخين دوخة البلجيكى
وبلدنا لسه جريحه
وبتصرخ بالأفريكى
وعربات النار يا ولادى
جيبات الذل شريكى
والشعب يقول يا بلادى
بالروح والدم أفديكى
بصراحه ولا انت معايا
ولا طانك من شبابيكى
وليلة مصطفى الحلاج انتهت بكارثة حيث كنا عائدين سيرا على الاقدام الشيخ إمام ومحمد على ومحمد جاد الرب على ومحمود اللبان والشاعر محمد لاشين وهو من رعايا محمد جاد الرب على جاء به إلى حوش قدم ذات ليلة وقدمه لنا على أنه مقاتل على الجبهة فحظى باحترام وإجلال لا أعتقد أنه يستحقه والحكاية دى بتفكرنى برائعة عم بيرم «زوجة السجان» التى يقول فيها عن غانم السجان
واتشال سى غانم مرابعه
بعد ندب كفاه
ولطم كان يستحقه فى حياته
قفاه
الحلقة الأولى.. أحمد فؤاد نجم يروى الجزء الثالث من مذكراته..بعد النكسة هتف المصريون «لا صدقى ولا الغول عبدالناصر المسئول».. هيكل "فقع مرارتنا" بمقالاته فكتبت له "أستاذ ميكى"
الجمعة، 22 يناير 2010 04:05 ص
أحمد فؤاد نجم