يسرى الفخرانى

يا صديقى.. لا تفكر!

الجمعة، 08 يناير 2010 12:11 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ثم وقف الدكتور يوسف إدريس مودعا الأستاذ نجيب محفوظ وهو يقول له بكبرياء المفكر وثقته: ياأستاذ نجيب، نحن لم نعد نفكر كما يجب، لانفكر أصلا، بعض أشخاص فقط يخططون لمصالحهم الشخصية ونحن نهتف خلفهم بالروح والدم!

بينما نفسها ابتسامة الساخر التى كان يحملها الأستاذ على وجهه فى محلها.. وهو يودع جلسة صيفية لا تتكرر دامت ساعة واحدة فقط فى مقهى ديليس بمحطة الرمل فى الإسكندرية، تلك أيام لم تعد معنا!

عشرون عاما تقريبا مضت على تلك المناقشة التى حدثت بمصادفة مدهشة بين اثنين من مفكرينا، يجمعهما خلاف حاد فى المعتقدات والأفكار، ويعتنقان أسلوبين مختلفين لممارسة الحياة، الأول: حاد غاضب متوتر نابض بالمتناقضات، الثانى: هادئ بسيط ضاحك لايؤمن بالصدمات.

يوسف إدريس كان يحاول بقوة أن يقنع نجيب محفوظ أننا كشعوب شرقية لم تعد متعتنا التفكير.. إنما ننتظر إنسانا آخر يصنع فكرة ما فنمضى خلفها مثل قطيع، لا نناقش لا نختلف لا نرفض، وهكذا..

بينما كانت مهمة نجيب محفوظ هى العكس: يادكتور يوسف، نحن لم نتخلف عن العالم إلا لأننا نفكر بالفعل كثيرا، أكثر من اللازم، وإما أن أفكارنا كثيرة إلى درجة أننا لانجد الوقت بعد ذلك لتنفيذها.. أو أن الأفكار نفسها غلط.. فتأخذنا إلى حيث يجب ألا نكون!

بعد كل السنوات أتذكر هذه الجلسة المدهشة بين إدريس ومحفوظ فأكتبها مقدمة مقال يحاول الإجابة عن سؤال: هل نحن بالفعل نفكر كما يجب قبل أن نصدر أحكاما مقدسة تحكم حياتنا أو نرفض أو ندافع عن فكرة ما؟، وأستدعى صورة مهذبة لحوار بين اثنين من الكبار يخاطب الأول الثانى فى قمة حدته بالأستاذ، ويرد الثانى: يادكتور، حوار يستمع فيه كل طرف لحكمة الآخر، دون أن ينتهى باتهامات متبادلة أو عبارات مبتذلة، يختلفان على مناقشة تستحق، ويتفقان على استكمال المناقشة فى وقت لاحق، دون أن يتعصب طرف لرأيه ويغلق مساحة المناقشة المتاحة مكتفيا برأيه إلى الأبد!

اليوم صباحا بينما أكتب مقدمة هذا المقال تصورت الأستاذ نجيب محفوظ والدكتور يوسف أدريس يشربان القهوة فى سيلانترو أو كوستا أو فى الفور سيزون أو أى من هذه الكافيهات الجديدة، ويتبادلان حديثا... لكم نصه....

- هل تذكر ياأستاذ نجيب هذه المناقشة الأخيرة التى جمعتنا وافترقنا على وعد باستكمالها؟
- أظن يادكتور يوسف أذكرها، لكن ألا ترى أن الزمن قد تغير بحيث أصبح من الصعب أصلا أن نبدأ مناقشتها من حيث انتهينا؟
- معك حق يا نجيب بك، حتى الأماكن التى كانت تجمع مناقشاتنا فى طقسها الفريد الحميم تغيرت، زمان كان المقهى يحتوى رواده فى زحام دافء كأنه بيت عائلة من غرفة واحدة، الآن نشرب القهوة بدون رائحة أماكنها، بسرعة مبتذلة، كأننا نهرب من المكان قبل أن يحتوينا!
- انظر ياعزيزى يوسف، أنظر للوجوه الشابة الشاردة حولك فى حيرة غير مفهومة، فى العيون طلة حزن لإنسان مهزوم، هل تظن أن خلف هذه العيون المقهورة فرصة لعقل يمكن أن يفكر أو يمنح نفسه وقت للتفكير؟ هل هذا الشباب المندهش يمكن أن يخلق أفكارا تقود بلدا إلى مستقبل مختلف؟
- زمان كنت أحاول أن أقنعك بفكرة أننا شعوب لم تعد تفكر.. ويفكرعنها مجموعة من الناس تقودها إلى حيث تريد، أنا أسحب كلامى ياأستاذ نجيب، ليس من أجل أن أتفق مع فكرتك، لكن لأقول لك أننا الآن شعوب لا تفكر ولا حكامها وحكمائها يفكرون، كله كفتة يا نجيب بك!
- بتقول إيه يادكتور يوسف! كفتة!.. هذه الجملة أرجو من كاتب الجلسة شطبها، إنها ليست فى صلب موضوعنا، ولاتليق بعمق مناقشتنا الجادة لعقل الإنسان المصرى!
- أرجوك يا شيخنا أنا متمسك بالعبارة، كله كفتة، لابد أن أكون عصريا فى أفكارى، كما تعودت منى، ألم تسمع فى التليفزيون عن عمرو أديب وهو يتكلم عن «سلطاته وبابا غنوجه» بينما يناقش مع الناس أصعب مشاكلهم اليومية فى برنامج يحكم المزاج العام، فاتك على ماأظن ياشيخنا أن تعرف أن الكفتة هى شعار المرحلة!
- ليس هذا قدرك يادكتور ولا قدرى، أنت وأنا أرفع من التحدث بهذا الأسلوب، حتى لو كان من حولنا الآن ينتشون بهذه الطريقة.
- نجيب بك، المفكر يجب أن يكون ابن عصره، وإذا أردت أن أفكر لهذا العصر يجب أن أستخدم مفرداته، أقلها أن أفكر كما يفكر وزير المالية حارس ثروات مصر، لكن اطمئن لن يتطور الحوار بيننا ياصديقى الكبير أبدا إلى مابلغه لسانه مهما اختلفنا!
- يجلس الرجل فى مكانة تاريخية مقدسة، فهو على سدرة الحكم التى كان يقيم بها الصديق يوسف!
- كان سيدنا يوسف نبيلا وحكيما، أوحى الله له بالنبوة والتأويل.. وعلمته الأيام التدبير والتفكير، هذا ليس زمن الأنبياء يا نجيب بك، ولا حتى زمن الخوف من التفكير.. إنه زمن التفكير من الخوف!
- تقصد أننا نبدو كأننا نفكر.. لكن الأفكار التى تولد مع الخوف منها أو الخوف عليها أو الخوف من المستقبل المجهول.. هى أفكار مشوشة تائهة لا معنى لها.. أفكار بنت حرام يعنى!
- تمام ياأستاذ، وأقصد أننا نخاف من كل الأفكار الجديدة.. نخاف أن نتمهل ونتوقف ونفكر فى صحتها أو خطئها، أعطى لك مثلا وأنت سيد العارفين يانجيب بك، نحن على عتبة انتخابات رئاسة، وحتى الآن كل مايحدث على الساحة السياسية والشعبية مسرحية هزلية ساذجة لو كتبتها لقتلنى صديقنا زكى نجيب محمود أو ناقدنا على الراعى، بلد مثل مصر لايملك مشروع تقديم رئيس قادم!، ولا نجد فى الأفق سوى أشخاص لم تقدم لنا سوى أسمائها الأولى.. ولا نتوقف لنفكر ولو للحظة من الذى فكر فى النيابة عن عقولنا فى أسماء مثل البرادعى وزويل وعمرو موسى!
- اعذرنى أنا لا أقرأ صحفا منذ زمن بسبب ظروف ضعف نظرى.. متى قرر هؤلاء حكم مصر!
- ليس المهم متى يا أستاذ نجيب، المهم قبل أن نتحمس لشخص ما.. وندخل فى معركة معه أو ضده أو حوله.. أن نعرف أفكاره، كيف يفكر، ويبدأ هو بمبادرة شخصية فى تقديم هذه الأفكار واضحة للناس الملتفة حوله تهتف له أو تلعنه، لكن.. أتابع الآن معارك كبيرة من دخان ليس لها أصل أو واقع.. فى الحقيقة لن تعرف أصلا متى بدأت، ومن الذى بدأها.. لكنها بدأت على كل حال وتحولت إلى كرة ثلج تكبر كل يوم.. ونهايتها أن تصغر كل يوم.
- أفهم أنك ضد هذه الأسماء يايوسف بك؟
- بالعكس.. أنا معها ومع غيرها، لكن أنا ضد الشكل الذى طرحت به فى صورة شائعات وكلام جرائد وتعليقات فى التليفزيون، ليس هناك مشروع حقيقى، شخص يتقدم ويقدم نفسه إلى الجمهور المنتظر تحت خشبة المسرح ويقول بكل صراحة ووضوح أقدم نفسى لكم استعدادا لترشيح نفسى لحكم بلد فى حينه فى حال تقبلوا ذلك.. هذا أنا وهذه أفكارى وهذا برنامجى، ونفتح باب المناقشة والتفكير!
- تقصد أن الجميع يطرح مثل بالونة اختبار ليس أكثر، وأن ماخفى كان أعظم!
- خلقنا معارك وأوهاما من لاشىء، تشغلنا وننشغل بها ونطوف حولها، وفى أى لحظة سوف نعود إلى نقطة الصفر.
- لعل الناس تنفس بذلك عن قلقها ويأسها ياعزيزى يوسف، وأنت تعلم أننا فى مصر إذا لم نجد الخوخ رضينا بشرابه!
- ألا يوجد عاقل فى هذا البلد.. لقد بدأت العاصفة على أحدهم مع أن الرجل حتى هذه اللحظة مجرد أخبار صحف تأتى من خارج الوطن، لم نسمع منه وجها لوجه، لم نسجل رأيه صوتا وصورة..
- الإنسان فى عصور اليأس يا دكتور يخترع شياطينه.. ثم يحاول أن يصرفها فيفشل. أنا أرى يايوسف دون أن تورطنى بالمزيد أن الساحة تبدو كأنها مهيأة لاختبارات ديمقراطية.. لكن الواقع ليس كذلك.
- يجب أن ننصرف فورا يا أستاذ نجيب، هل تلمح هذه النظرات من هذه الفتاة!
- هل ارتكبنا جريمة ما ياعزيزى يوسف تجعل هذه الفتاة تراقبنا وتسجل لنا؟
- جريمة التفكير يا نجيب بك.
- والحساب!
- يوم الحساب ياشيخنا الجليل.









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة